معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

الحياد: الخيانة التي لا تستتر
27/10/2023

الحياد: الخيانة التي لا تستتر

ليلى عماشا

وفقًا للمعايير الأخلاقية والإنسانية، لا يمكن للمرء أن يكون محايدًا في المعارك الواضحة، ولا سيّما حين يكون الدم لون المشهد، والظلم كالشمس لا تخفيه أكاذيب الماكينات الإعلامية المضلّلة. حتى الذي يجد أنّ قلبه كإنسان لا يتفاعل بشكل حقيقي ولا يسبقه إلى الموقف، يخجل من المتفاعلين فيصمت كي لا يستفزّ بحيادية قلبه، الغريبة والبعيدة عن السّواء الإنساني، قلوب الذين يبوحون بمواقفهم الواضحة، حتى ولو كانوا ممّن ينصرون الباطل. هي بديهيات في التفاعل الإنساني، لا علاقة لها بالمواقف السياسية المسبقة، ولا تحتاج إلى ثقافة أو إلى تعمّق في الأحداث ومجرياتها.

هذه البديهيات تغيب عن الكثيرين في المشهد اللبناني: بين اعتيادهم على استغباء الجمهور، ولا حيادية قلوبهم في خضوعهم للأميركي وفي انهزاميّتهم التي ترفض حتى الإقرار بكلّ الانتصارات المحقّقة والمشهودة، خرجوا يطالبون بحياد لبنان عن المعركة القائمة، مضمّنين مطالبتهم حججًا لا تنطلي حتى على البسطاء والسذّج! حياد؟!
في مقاربة مفهوم الحياد الذي يدعو إليه هؤلاء، ثمّة مساران مختلفان: الأوّل، هل الحياد ممكن فعلًا؟ والثاني، أهو حيادٌ أم نصرة مبطّنة للباطل؟

أولًا، عدا عن البديهيات الإنسانية، وبشكل موضوعيّ جدًا، لا إمكانية لأن يكون لبنان محايدًا في المعركة ضدّ "إسرائيل"، لا الذاكرة القريبة ولا التاريخ ولا الجغرافيا ولا طبيعة "إسرائيل" العدوانية تسمح أصلًا بالتفكير بالحياد كخيار محتمل. ثمّ إنّ المنطق يقول إنه يمكنك أن تكون محايدًا حين لا تؤثّر المعركة عليك بأي شكل من الأشكال ولا تربطك بأطرافها أيّ صلة كانت. يمكن لسكّان جزيرة في المحيط الهندي أن يدّعوا حيادًا في المعركة الآن، وحتى هؤلاء قد يستحون بالمجاهرة بحيادهم إن نقلت إليهم شاشة تلفزيونية ما يجري في غزّة، فيصبح الحياد في هذه الحالة إساءة لإنسانيّتهم.

ثانيًا، بإلقاء نظرة سريعة على دعاة الحياد، يمكن لأي أحد ملاحظة تموضعهم السابق والحالي في حضن التعليمات العوكرية، وبالتالي يكون ادعاؤهم هذا كذبة مخزية، يناصرون من خلالها القاتل عبر تجهيله أو تجاهل ارتكاباته، بإيعاز مباشر من مشغّلهم الذي لا يخفي استخدامه لهم كأدوات يستأجرها ويستثمرها ثمّ يستغني عن خدماتها ما إن تنتهي مصلحته بذلك. ولذلك هم في سباق دائم مع الوقت، وفي تنافس دائم فيما بينهم، كي يثبتوا للمشغّل أنّهم ذوو منفعة له، ومنفعته في هذه المرحلة تكون بحماية "إسرائيل" من قوّة حزب الله. ومن هنا استماتتهم في الدعوة للحياد، بحيث يتحقّق المطلب "الصهيوني" المعلن، ويخفّ عنه قليلًا الرّعب الآتي من الشمال.

وإن كانت الدعوات إلى الحياد بحد ذاتها هي استغباء للناس، فالحجج التي يرفقون بها الدعوة هذه أكثر احتقارًا لعقل الجمهور. تارة يظهرون خوفهم الكاذب على لبنان واللبنانيين بشكل يدفع المرء للتساؤل: هل فعل أيّ من هؤلاء شيئًا من أجل هذه الأرض؟! أبدًا، هم يستثمرون في مواجع أهلها ويهبون أنفسهم لعدوّها علنًا. وتارّة يهبّون للتخويف بالصهاينة: انظروا حال غزّة، هل تريدون لنا أن نلتحق بها؟ جيّد، هم يرون إذًا وحشية الصهاينة في غزّة ويقرّون بها بل وقد يضمّنون كلماتهم هذه سيلًا من العواطف الشعاراتية التي تتغنى بحبّ فلسطين ونصرة الفلسطينيين والتباكي على حالهم. ولكن لنسلّم جدلًا أنّهم فعلًا خائفون ومقرّون بعدوانية "إسرائيل"، منطقيًا ينبغي أن يدفعهم هذا إلى التمسّك بسلاح المقاومة، القوّة الوحيدة التي يمكنها أن تمنع هذا العدوان!

أمّا حكاية أننا "تعبنا" من الحروب، فقد أصبحت مضحكة! تعبتم من ماذا بالضبط؟ كم حربًا خضتم ضد الصهاينة؟ كم شهيدًا قدّمتهم في معركة الحق ضدّ الشرّ الأميركي الصهيوني؟ من طالبكم أصلًا بدخول أرض المعركة والاستعداد للتضحية فيها؟ مَن توقّع منكم تأدية واجبكم الأخلاقي والإنساني تجاه الدم المسفوك والعدوانية الوقحة والوحشية المتصاعدة، ثمّ لامكم على تخاذلكم وتقصيركم؟! لا أحد. على العكس، لم يطلب منكم يومًا سوى استشعار انسانيتكم ووضعها معيارًا لمواقفكم. ثمّ من جهة أخرى، هل تصدّقون أنفسكم وأنتم تحاضرون بحيادٍ هو في الواقع جدوَلة للمطالب الصهيونية؟ أي صدفة جعلت خطابكم الداعي إلى الحياد يتماهى إلى هذا الحدّ مع الخطاب المعادي؟ بالمناسبة، حتى الأفراد والدوَل التي تناصر "الإسرائيلي" علانية وتدعمه، تحاول قدر الإمكان حفظ تمايز ما بين خطابها وخطابه، ولو بشكل سطحي وتمويهي! أي وقاحة تسكنكم حتى سميتم التماهي المتواطئ حيادًا ودعوتم له؟! صدّقوا، إن كان ثمّة ما هو أكثر عارًا وبشاعة من مناصرة الباطل علانية، فهو حكمًا مناصرته تحت مسمّى الحياد!

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف

خبر عاجل