آراء وتحليلات
الغرب والمقاومة.. انقلاب الصورة
مفيد سرحال - كاتب ومحلل سياسي
لا ريب أن صور مقاتلي حزب الله، في معلولا وصيدنايا في خضم الحرب على سوريا، وهم يؤدون تحية التعظيم والإكبار لتمثال السيدة العذراء عقب معارك ضارية صدّوا خلالها الهجمة البربرية عن الاماكن المقدسة وأبعدوا السكين عن رقاب العائلات المسيحية في تلك المطارح الوادعة الساكنة في رحاب الايمان والأمان، ما تزال مشهديّة ماثلة كالطيف البهي في وجدان المؤمنين بوحدة الحياة المدركين لحقيقة الصراع وأبعاده والمؤامرة وأهدافها القريبة والبعيدة التي حيكت ضد شعوب منطقتنا، ويتنكر لها كلّ حاقد أو جاحد أعمى البصيرة.
إنها ثقافة المقاومة المجبولة بالقيم الانسانية السامية ونبل الرسالة المحمدية المتحررة من وصمة الطائفية. صراعها مع المشروع الصهيو - تكفيري قائم على فهم عميق لمخاطره وتشابكه مع الخضات والهبات كلها التي لفحت عالمنا العربي، لا سيما سوريا، كما تجلّى البعد القومي الإنساني الحضاري الثقافي في خطابها وممارستها كونها تصارع من أجل حرية الأرض والإنسان.
في حين انغمست حركات وقوى إسلامية أخرى في حروب مع الأنظمة العلمانية مستهدفة الجيوش العربية، ولم تكن فلسطين في أجنداتها محرّكًا للصراع، كما لم يكن الصراع العربي- الإسرائيلي في قائمة الحدّ الأدنى من اهتماماتها، ولنا في الحرب على غزة المثل والمثال.
لقد تنبّهت المقاومة، في حربها الوجودية المفتوحة مع العدو الصهيوني، إلى أن تهجير المسيحيين من المنطقة، وخاصة فلسطين المحتلة وبلدان الطوق، يشكّل هدفًا استراتيجيًا يندرج في صلب المشروع الصهيوني، وليس عبثًا تدمير الوكيل للكنائس والكاتدرائيات التي يعود بعضها إلى 1500 سنة في سوريا والعراق، وتدمير الصهاينة لمستشفى المعمداني في غزة وثالث أقدم كنيسة أرثوذوكسية في العالم وطمر 500 نسمة، بينها عائلات أزيلت عن قيود النفوس بالكامل، إضافة إلى المركز الثقافي الارثوذوكسي..
ولا ننسى في هذا السياق، إعمال السكين في رقاب المسيحيين على يد من يسمّون "الثوار" من الجماعات التكفيريّة ضمن مخطط محموم لإفراغ الشرق من الوجود المسيحي. وجلّي تدمير كنيسة الأرض، أي الكنيسة المشرقية، واقتلاعها ونهب أملاكها كما يجري في فلسطين المحتلة، وسرقة ودائعها من المصارف والتهكم على الرهبان والراهبات والإساءة إلى الصليب المقدس من قطعان المستوطنين اليهود وتهجيرهم، وتحويل والرسالة الى رواية تاريخية ليس إلا بعدما صارت المسيحية في الغرب مسيحية متهوّدة استحالت إيديولوجية، حيث سيطر اليهود على عقول النخب الحاكمة في الغرب الجماعي، وأعموا بصائر الشعوب بوعي زائف تعتقد أن "يهوه هو الله"؟ واستعبدوا بالدعاية الخادعة والتضليل العقول بالتوراة ونصوصها(العهد القديم) ورُبطت القيم المسيحية والخلاصية العليا بأهداف الأصولية اليهودية مع اختلاف طفيف حول مسألة "المجيء" أي مجيء "السيد المسيح"؛ وهل سيكون للمرة الأولى أم الثانية؟
لقد تحوّلت الأصولية المسيحية إلى عنصر أساسي في التاريخ الديني والاجتماعي والسياسي الغربي وقوة سياسية ثقافية وازنة في الغرب الجماعي، لها تأثير بالغ في مناخ الحياة الاجتماعية والسياسية، وفي عملية صنع القرار في السياسة الخارجية. وكان لها دور فاعل في ترسيخ الكيان اليهودي في عقول الغربيين. وغدت محاباة اليهود وتقديم شتى أنواع الدعم العاطفي والمادي لهم، والتغاضي عن جرائمهم، مسألة محض عقدية تقود الى اعتقاد ايماني يقضي بقيام مملكة "إسرائيل" على أرض سوريا التاريخية ما يعجّل بمجيء "السيد المسيح".
وليست مستغربة على الإطلاق الهبة الغربية لنجدة الكيان الصهيوني الذي تهاوى وتلاشى كفكرة ووظيفة عقب العبور الملحمي الأسطوري للمقاومة الفلسطينية، في السابع من اكتوبر، للحفاظ على الذات الغربية وتدعيم الدولة التي أقامتها الإمبريالية العالمية وشرعتها زورًا بوثيقة اعتراف من الأمم المتحدة.
إنّ المجازر المروعة التي يرتكبها نتنياهو وقادة الكيان، من سياسيين وعسكريين، بحق الشعب الفلسطيني يتعاطى معها قادة العالم الغربي ليس فقط باستخفاف ممجوج ولا مبالاة وصمت خبيث مطبق؛ لا بل بتأييد ضمني وإسناد وقح ظاهر؛ لأنّ في ذلك انسجام عقائدي مع أسفار التوراة وتحقيق وعودها المقطوعة لبني "إسرائيل": "فضربا نضرب سكان تلك المدينة بحدّ السيف ونحرقها بكلّ ما فيها مع بهائمها"...سفر التثنية 13/15. "وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيها الرب إلهك نصيبًا؛ فلا تستبق منها نسمة ما"... التثنية 20/16.
إن الغرب المتصهين الأصولي يشجع العنف ضد الفلسطينيين والدول العربية المجاورة، وضد الأماكن الإسلامية المقدسة، كونها من الوسائل القادرة على التعجيل بحدوث عملية الخلاص التي ينتظرها الأصوليون. وما وسم الفلسطينيين بالحيوانات البشرية، أو عدم وجود أبرياء في غزةأ سوى تصور يدخل في سياق الفهم العقائدي للغرب الجماعي.
وقبل وزير التراث الصهيوني، والذي دعا الى استخدام القنبلة الذرية لسحق غزة، فإنّ الحاخام الصهيوني المتطرف مئير كاهان وصف الفلسطينيين بالجراثيم التي ينبغي إبادتها، داعيًا إلى استعمال القنبلة الذرية ضدهم. كما دعا هذا العنصري إلى تفجير الأقصى المبارك- فهو خنجر في ظهر "يهوه"- وإلى رمي حجارته في أقاصي الدنيا حتى لا تبقى في "أورشليم"؛ على حد تعبيره.
غير أن يقظة الشعوب الغربية وتفجر وعي الأجيال الجديدة، من خلال الإعلام البديل، وتضامنها عبر التحركات الجماهيرية الاعتراضية الغاضبة ضد حكامها شكّلت فارقًا؛ لا بل فالقًا زلزاليًا على وقع الفظاعات التي ارتكبها جيش الاحتلال الصهيوني بحق غزة وأطفالها ونسائها وشيوخها. وأتت الهبة الشعبية العارمة لتكسر المفاهيم الإيديولوجية السائدة، وهذا ما يكشف السعار الغربي وجنونه واستماتته في الحفاظ على العقل الجمعي الغربي وفكره التلمودي التوراتي، وانقاذ ما تبقى من هيبة للكيان المؤقت المصطنع.
إن صمود غزة وبواسلها، من أبناء القسام والجهاد وبقية الفصائل الفلسطينية، والحرب الحقيقية التي يخوضها حزب الله في جنوب لبنان وما تركته من تداعيات على الكيان أمنيًا وعملياتيًا واقتصاديًا، لا شك أنها سترسم معادلات جديدة وستحدث تغييرًا ليس في الإقليم وحسب، إنّما على مستوى العالم، لأن تحجيم "إسرائيل" وعزلها واستنزافها والحاق الخسائر بجيشها سيقوّض النفوذ الإمبريالي الاستعماري في منطقتنا.
إن الحرب على غزة والظلم والإجرام اللاحق بالفلسطينيين الأبرياء العزل سيؤدي إلى استفاقة مسيحية - شعبية غربية تكنس الحكام المنغمسين بالسردية التوراتية والنبؤات، ليعود معها الغرب إلى الانجيل المقدس الذي سعى الصهاينة إلى شطبه وتحويل التوراة إلى جزء لا يتجزأ من الشخصية الغربية، ولا ننسى هدم القيم وضرب الفطرة الإنسانية وتدمير الأسر وتشريع الشذوذ الجنسي، وكل ما هو مخالف للطبيعة البشرية.
ازاء كل ذلك، هل ستتحوّل المقاومة في المنطقة ورموزها إلى ملهمين مؤثرين في الغرب كقادة تحرّر؟ وتسقط قلاع الإمبريالية توأم الصهيونية من الداخل من خلال الانتصار للحق بالوعي الماحق للتزييف والتحريف؟
إنّه زمن انقلاب الصورة ومراكمة الربح بالنقاط قبيل الضربة القاصمة.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024