آراء وتحليلات
بين عقيدتي "الضاحية" و"الضرر أكثر من الدقة".. "إسرائيل" تحصد الفشل في غزة
د. علي دربج - باحث وأستاذ جامعي
بعد الهيجان الإسرائيلي، في قطاع غزة، والمحلق بالمذابح والمجازر والمحرقة التي ارتكبها جيش الاحتلال طوال 47 يومًا، طالت الحجر والبشر والشجر وكل ما يوحي بالحياة، طرح الخبراء العسكريون حول العالم سؤالًا بالغ الأهمية، حول ماهية الاستراتيجية أو العقيدة الجهنمية التي عمل بها العدو خلال هذه الحرب الدموية غير المسبوقة في التاريخ الحديث؟
أما الاجابة على هذا السؤال فلم يتأخر، إذ إنّه وبعد أيام قليلة من الحرب، كان مسؤول عسكري إسرائيلي كبير صريحًا بشأن الرد العسكري لبلاده، إلى حدّ أنّه ناقض وكذّب، بشكل غير مباشر، ادعاءات المسؤوليين الأمنيين الإسرائيليين عن الخطوات التي يتخذونها لتقليل الضرر الذي يلحق بالمدنيين ويزعمون أنهم يضربون أهدافًا عسكرية مشروعة فقط.
ما هي العقيدة التي استخدمها جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة؟
في الأيام الأخيرة قبل سريان الهدنة، اتهم المتحدث باسم جيش العدو دانييل هاغاري "حماس" بنشر أصولها وصواريخ وعتادها العسكري، "بشكل ساخر"، في المناطق المدنية وبالقرب من البنية التحتية الحيوية، مثل المستشفيات. هذه المزاعم كانت المبرر الإسرائيلي لإلقاء الطائرات الحربية مئات الأطنان من القنابل على غزة، عدا عن القصف البري والبحري المتواصل على مدار مرحلة الحرب التي أودت بحياة أكثر من 14 ألف شهيد، بينهم أكثر من 5,000 طفل. وتسبب العدوان بأزمة إنسانية كبيرة في القطاع، ونزوح الجزء الأكبر من سكانه البالغ عددهم 2.3 ملايين نسمة، ودفع مئات الآلاف إلى البحث اليائس عن الغذاء والسلامة والمياه، فضلًا عن انتشار الأمراض وانقطاع الدواء ومنع الطبابة.
ومع انطلاق كمّ كبير من التعليقات حول ما قد تكون عليه استراتيجية "إسرائيل" ومسارها النهائي، في سعيها للقضاء على "حماس" في غزة، ظهر في الأفق ما يوضح الهدف الإسرائيلي، عندما تحدث هاغاري في المرحلة المبكرة من الهجوم الجوي الوحشي، كاشفًا عن معادلة عسكرية جديدة مفادها أن "تركيز انتقام الجيش الإسرائيلي كان على الضرر وليس على الدقة".
الملفت أن هذه النظرية تحوّلت إلى عقيدة عسكرية إسرائيلية طويلة الأمد، عمدت قيادات الاحتلال إلى تطبيقها في غزة، ومراقبة جدوى فعاليتها على الأرض، وتأثيرها النفسي والاجتماعي على سكان غزة.
ما العلاقة بين عقيدة الضاحية ونظيرتها "الضرر أكثر من الدقة"؟
كانت العقيدة التي انبثقت عن عدوان تموز 2006، الأكثر شهرة. ففي 3 تشرين الأول 2008، عرض قائد المنطقة العسكرية الشمالية في جيش العدو اللواء غادي أيزنكوت، في مقابلة مع صحيفة "يديعوت أحرونوت"، لأحد الدروس الرئيسة المستفادة من حرب لبنان الثانية، قائلًا: "أنا أسمّي ذلك نهج الضاحية، إن ما حدث في الضاحية الجنوبية في بيروت، خلال حرب لبنان الثانية 2006، هو ما سيحدث في أي قرية لبنانية يُطلق منها النار على إسرائيل. سنفعّل ضدها قوة غير متكافئة Disproportionate، وسنتسبب بضرر ودمار بالغين. إن الحديث، من ناحيتنا، يدور على قواعد عسكرية، لا على قرى مدنية.. هذا ليس اقتراحًا أو توصية، إنها خطة وقد أقرّت"، بحسب تعبيره.
في الوقت نفسه تقريبًا، كتب العقيد الإسرائيلي السابق غابرييل سيبوني تقريرًا لمعهد دراسات الأمن القومي في جامعة "تل أبيب"، لفت فيه الى أن: "الرد الضروري على الاستفزازات المسلحة من لبنان أو سوريا أو غزة كان عبارة عن ضربات "غير متناسبة" تهدف فقط إلى ضرب أهداف ثانوية، لشلّ قدرة العدو على إطلاق الصواريخ أو غيرها من الهجمات". واستطرد قائلا: "ينبغي أن يكون الهدف إلحاق أضرار دائمة، بغض النظر عن العواقب المدنية، كرادع مستقبلي"، على حد تعبيره.
وإذ أوصى سيبوني أنه: "مع اندلاع الأعمال العدائية، سيحتاج الجيش الإسرائيلي إلى التصرف، بشكل فوري وحاسم وبقوة غير متناسبة، مع تصرفات العدو والتهديد الذي يشكّله"، رأى أن: "مثل هذا الرد يهدف إلى إلحاق الضرر وإنزال العقوبة إلى حد يتطلّب عمليات إعادة إعمار طويلة ومكلفة".
انطلاقًا من ذلك، وعند النظر في حجم الضرر الذي ألحقه الاحتلال بغزة، نجد أن ما فعله هو تطبيق متطور لعقيدة الضاحية، قد يكون أشبه بالنووي التكتيكي، خصوصًا أن العدو يعترف مسبقًا بالعجز عن النيل من القدرات الصاروخية للمقاومة الفلسطينية. وهي نتيجة كان توصل إليها إيزنكوت وعبّر عنها بطريقته الخاصة، معلنًا أن اصطياد مطلقي الصواريخ "حماقة مطلقة، إذ عندما يكون هناك آلاف الصواريخ في الجانب الآخر، فإنّه ليس في استطاعتك اصطيادها".
متى بدأت "إسرائيل" بتطبيق عقيدة الضاحية؟
بدأت "إسرائيل" تطبيق عقيدة الضاحية، خلال جولة الحرب بين "حماس" في غزة و"إسرائيل" في نهاية العام 2008 وبداية العام 2009، وقد أسمتها حينها المقاومة الفسطينية باسم "معركة الفرقان"؛ وأسماها العدو "عملية الرصاص المصبوب". حينها أكد تقرير صادر عن الأمم المتحدة أن العدوان الإسرائيلي كان: "هجومًا غير متناسب متعمدًا يهدف إلى معاقبة وإذلال وإرهاب السكان المدنيين، وتقليل قدراتهم الاقتصادية المحلية بشكل جذري على العمل، وارغامهم على شعور متزايد بالتبعية والضعف".
استمرت العقيدة في السنوات التي تلت ذلك، هذا ما لاحظه عدد من الباحثين الإسرائيليين والغربيين، خصوصًا في خريف العام 2014، بعد العدوان الذي أطلقت عليه "إسرائيل" "الجرف الصامد"، وردّت عليه المقاومة في غزة بـ""العصف المأكول". وقد أسفر هذا العدوان عن 2322 شهيدًا و11 ألف جريح. وخلص هؤلاء الباحثون إلى القول:" دعونا نكون صريحين: هذا في الواقع ليس عقيدة استراتيجية بقدر ما هو مخطط واضح للعقاب الجماعي وجرائم الحرب المحتملة".
هل اعترفت "إسرائيل" بعقيدة الضاحية في حربها على غزة؟
رغم الإبادة التي حصلت، نجد القليل من الإشارة إلى مبدأ الضاحية، سواء في تصريحات السياسيين الأمريكيين أم في تقارير الحرب من معظم وسائل الإعلام الأمريكية الرئيسة، والتي ركزت على وصف جرائم العدو بأنها "دفاع عن النفس". والأسوأ هو أن المشرّعين والمعلّقين، في جميع أنحاء الغرب، دافعوا عن ما أسموه حق "إسرائيل" في الدفاع عن النفس، فضلًا عن أن الفشل والقلق الإسرائيليين غير المسبوقين جراء هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، أديا إلى اختلاط المفاهيم عند القادة الصهاينة بين الثأر والانتقام، مع الحاجة لتحقيق صورة إنجاز أو نصر يعيد الهيبة لجيش الاحتلال المأزوم.
من هنا، كان الاجماع في الكيان على ضرورة أن يُقدم الجيش على كل ما يؤدي إلى القضاء على حماس. ولتحقيق هذا الهدف، يعمل جيش العدو على المزج بين عقيدة الضاحية و"الضرر أكثر من الدقة". وهو ما أيّده بشدة عدد من السياسيين الإسرائيليين الذين دعوا إلى تدمير غزة، بشكل كامل، وإخلاء القطاع من سكانه، وحتى إعادة "إسرائيل" توطينه ..!
غابي آيزنكوت، الأب الروحي لعقيدة الضاحية، وهو عضو حالي في "حكومة الحرب" الإسرائيلية، لم يلجأ هو أو أي سياسي أو مسؤول أمني إسرائيلي إلى الاقرار صراحة بأنّ "عقيدة الضاحية" كانت نموذجًا للتدمير الذي حدث في غزة، لمعرفتهم بأنّ ما يفعلونه هو جرائم حرب ضد الإنسانية وإبادة جماعية لا لبس فيها، وأن ذلك سيعرّضهم للملاحقة في المحاكم الوطنية في أي دولة قد يزورونها مستقبلًا في حال رفعت دعوى بحقهم. وهو ما بتنا نشهده، في مختلف دول العالم، من مجموعات من النخب الحقوقية والإعلامية وحتى السياسية التي يعملون الآن على تحضير وتجميع وتوثيق مذابح قادة الاحتلال في غزة.
المثير في الأمر أن سيبوني، والذي يعمل الآن في معهد القدس للاستراتيجية والأمن وكان من أشدّ المنظرين لعقيدة الضاحية والمتحمسين للوحشية الهمجية، آثر الصمت هذه المرة أيضًا، ولم يجرؤ على المجاهرة بهذه النظرية، بل نفى أن يكون جيشه يعمل بها. فقد قال لصحيفة لوموند الفرنسية الشهر الماضي: "لا أعتقد أن هذا المبدأ ينطبق اليوم"، زاعمًا أن كل ما تستهدفه "إسرائيل" هو أهداف عسكرية واضحة.
في المحصلة، سواء طبق الجيش عقيدته "الضرر أكثر من الدقة" أو "الضاحية"، فالنتيجة واحدة، هو الانتقال من فشل الى آخر، وسيعجز عن تحقيق نظرياته واستراتيجاته. وهو ما لمسناه عندما رفع الاحتلال شعار "لننتصر معا"، والذي أفرغته المقاومة الفلسطينية من مضمونه وجعلته أجوفًا بعد رضوخه وتسليمه بمطالب كتائب عز الدين القسام في مسألة صفقة الأسرى، وإرغامه على الدخول في هدنة، من المرجح أن تُمدّد لحفظ وجه ماء "إسرائيل" المنهكة بلملمة جراحها العميقة الناجمة عن ضربات لبنان وغزة.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024