طوفان الأقصى

نقاط على الحروف

"اسرائيل" تُدمّر التراث الثقافي والتاريخي بغزة.. واليونسكو تُدير ظهرها
02/12/2023

"اسرائيل" تُدمّر التراث الثقافي والتاريخي بغزة.. واليونسكو تُدير ظهرها

د. علي دربج - باحث وأستاذ جامعي

لم يستثن جيش الاحتلال الإسرائيلي في حربه الدموية أي شيء في غزة. فكل ما يخطر على البال سواء كان كائنًا حيًا أو رمزًا دينيًا مقدسًا أو أدبيًا، قد جرى استهدافه بأطنان المتفجرات والصواريخ الغربية والأمريكية المنشأ، ومثيلتها الآتية من المصانع الصهيونية.

إضافة إلى أن عدد الشهداء قد تجاوز الـ20 ألفا فإن حرب الإبادة الصهيونية، هدفت في جزء منها إلى طمس التاريخ والتراث الثقافي الفلسطيني، ومحوه من الذاكرة الحديثة. فيما الهدف هو تعميم أو فرض السردية التوراتية الصهيونية المزعومة التي لم نجد لها أساسًا وجذورًا، إلا في كتب الصهاينة وأقلام أتباعهم في الغرب والشرق.
 
ما هي الأماكن التاريخية والرموز التي استهدفتها "إسرائيل"؟

من المعروف أنه في جميع الحروب، تُحَدَّد الآثار التاريخية والأماكن الثقافية التراثية والنصب التذكارية كمناطق محميّة، كونها مشمولة بالحماية الدولية وفقًا للقوانين والأنظمة الأممية. لكن عندما يتعلق الأمر بـ"إسرائيل" فكل شيء مباح لها بمباركة غربية ــ أمريكية.

وتبعًا لذلك، فإن أحد جوانب الحرب التدميرية الإسرائيلية الأكبر والأعنف والأكثر وحشيّة خلال أيام الحرب الماضية، والتي لا يتم الحديث عنها كثيرًا هو تدمير التراث الثقافي: الوثائق والآثار والتحف.

ففي 19 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، دمرت الغارات الجوية الإسرائيلية جزءًا من كنيسة القديس بورفيريوس للروم الأرثوذكس، حيث لم تراع "تل أبيب" حرمتها ولا قدسيتها، رغم أن حوالي أربعمائة شخص كانوا يحتمون بداخلها، مما أدى إلى مقتل 18 مسيحيًا فلسطينيًا.

مع أن هذه الكنيسة، كانت قد بنيت في القرن الثاني عشر، ويُعتقد أنها ثالث أقدم كنيسة في العالم، لكن المؤسف أن هذا الفعل الإجرامي، لم يحرك المنظمات الدولية والمرجعيات الدينية، التي تصرفت وكأن القضية لا تعنيهم، أو أن المكان المستهدف لا يخص رمزًا دينيًا له ملايين الأتباع حول العالم.

أما النكبة الكبرى فهي نسف المستشفى المعمداني في 17 تشرين الأول الماضي على رؤوس من فيه. بالرغم من أنه يعدّ من أقدم مستشفيات غزة – وهو تابع للكنيسة الأسقفية الأنجليكانية في القدس. الجدير بالذكر أن هذا المستشفى أُسِّس في عام 1882، على يد البعثة التبشيرية التي كانت تابعة لإنجلترا. وتعتبر الكنيسة المعمدانية واحدة من ثلاث كنائس للمسيحين بغزة، وهي كنيسة القديس برفيريوس والكنيسة اللاتينية.

زيادة على ذلك، لم تسلم النصب التذكارية لشخصيات فلسطينية بارزة من همجية الاحتلال. ففي 27 تشرين الأول/أكتوبر، أدان الاتحاد الدولي للصحفيين، قيام قوات الاحتلال النازي، بتجريف "شارع الصحفية شيرين أبو عاقلة" وهدم نصبها التذكاري في أثناء توغلها في مدينة جنين ومخيمها شمالي الضفة الغربية المحتلة.
وفي 14 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وعلى مرأى ومسمع الدول ما يسمى الديمقراطية، أقدمت جرافة إسرائيلية في الضفة الغربية على تحطيم النصب التذكاري للزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.

ماذا عن سياسة تدمير المكتبات والمطابع التاريخية؟
 
ركزت المحرقة الصهيونية في غزة، وعن سابق تصميم وإصرار على المواقع الثقافية. فعلى منصة X، نشرت الكاتبة والمترجمة لينا منذر، بيانا تحدث فيه عن أهمية مطبعة ومكتبة المقداد، والتي تعدّ إحدى أقدم المطابع في غزة. وقالت فيه "خسرت الملايين: المطابع والكتب والمعدات. الجهود التراكمية لعائلتي بأكملها: أمي وأبي وإخوتي. ذهبت في لحظة، لقد غادر والدي بدون أي شيء".

وفي نهاية الشهر الفائت، وقبيل الهدنة، دُمِّرَت المكتبة العامة الرئيسية في غزة والأرشيف المركزي وفقًا لموقع الاستخبارات الرقمية والمصادر Storyful. ليس هذا فحسب، إذ ذكرت بلدية غزة أن آلاف الوثائق التاريخية أُتْلِفَت عمدا، ودعت منظمة اليونسكو إلى "التدخل وحماية المراكز الثقافية، وإدانة استهداف الاحتلال لهذه المرافق الإنسانية المحمية بموجب القانون الإنساني الدولي".

وليس بعيدا عن ذلك، نشرت مخرجة فلسطينية تدعى بيسان عودة من غزة على موقع إنستغرام، فيديو تتحدث فيه وهي تحاول حبس دموعها، عن تدمير الأرشيف الذي قالت إنه كان يحتوي على وثائق عمرها أكثر من 100 عام. وقالت: "الآن، حرفيًا ليس لدينا أي شيء". وأضافت "المستقبل مجهول، والحاضر دُمر، والماضي لم يعد ماضينا، هل تتخيل أنهم يفعلون كل هذه الأشياء لتدمير عمقنا؟".

ماذا تقول اتفاقية لاهاي المعنيّة بحماية هذه الأماكن والمنشآت؟
 
بموجب اتفاقية لاهاي لعام 1954، بشأن حماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح، فإن الممتلكات الثقافية محمية بموجب القانون الدولي. من هنا أكد الباحثون منذ فترة طويلة أن التدمير المتعمد للتراث الثقافي هو عمل إبادة جماعية، يمكن مقارنته بقتل وتهجير الناس - لأنه يؤدي، على حد تعبير أحد الفلاسفة السياسيين، إلى "خسارة الشعب نفسه".

ما تجدر معرفته هنا، أنه لا شيء من هذا جديد في تاريخ الصراعات والغزوات والإرهاب. في غابر الزمان ارتكبها الرومان والبريطانيون والنازيون. ومنذ قيام "إسرائيل" ومن بعدها، ولادة الجماعات الإسلامية المسلحة مثل "داعش" ربيبة الصهيونية، فإن تدمير التراث الثقافي كان أداة لحروبهم واحتلالاتهم.

كيف طبق العالم سياسة ازدواجية المعايير في كل من غزة وأوكرانيا؟

عمليًا، وكما هي الحال مع العديد من القضايا في الصراع بين "إسرائيل" وغزة، فإن السؤال الذي يطرح نفسه للأسف هو: من يعتبر تراثه الثقافي – وحياته – تستحق الحماية؟
 
ففي العام الماضي، عندما بدأت المواجهة الأطلسية ــ الروسية بأوكرانيا، دق العديد من النخب الثقافية ووسائل الإعلام الغربية والأمريكية النافذة، ناقوس الخطر بشأن تدمير التراث الثقافي ونهب الآثار. في ذلك الوقت، كانت المنظمات الدولية والمؤسسات الأكاديمية، تجري مناقشات وتشكل فرق عمل لمحاولة المساعدة على إنقاذ الممتلكات الثقافية الأوكرانية وتقديم الدعم للباحثين الأوكرانيين.

المخزي، أن هذه الهبّة والعاطفة الجياشة تجاه ممتلكات أوكرانيا، قوبلت بالتجاهل وتطبيق سياسة ازدواجية المعايير بغزة. إذ لم تتحرك أي جهة ثقافية دولية أو عربية، أو تقم بإجراء أو حتى فعل وبالزخم نفسه فيما يتعلق بالنطاق للتراث الثقافي الفلسطيني خلال الحرب، إلا ما ندر من مبادرات خجولة، تمثلت بقيام قلة من العلماء الفلسطينيين والأجانب بمراقبة الوضع عن بعد، ومحاولة تقييم مدى الضرر الذي لحق بالأرشيف والمجموعات والوثائق. ومع ذلك اصطدموا بعقبات كثيرة منها صعوبة قياس الخسائر بسبب عدم توفر الاتصالات والدمار الهائل.

لذا، تسبب ذلك، بالعجر عن بلورة تقدير نهائي كامل ودقيق لحجم الخسائر التي لحقت بهذه بالأماكن والدور الثقافية. لكن الأكثر أهمية، أن هناك أيضًا مخاوف (على مستوى المعنيين في فلسطين وخارجها) بشأن قيام أفراد من جيش الاحتلال الإسرائيلي بنهب القطع الأثرية من غزة وغيرها من المناطق الفلسطينية.
 
في المحصّلة، من البديهي أنه في خضمّ الفظائع والمذابح والمجازر التي ارتكبت على مدى أكثر من 50 يومًا ــ وهي مستمرة ــ  قد لا يُنظر المرء إلى الحفاظ على الأشياء والمباني على أنها قد تتقدم أو تفوق أهمية حماية حياة الأبرياء. لكن الحفاظ على الثقافة والتاريخ، هو جزء لا يتجزأ أيضًا من حماية الشعب وروحه. وعليه إذا استمرت "إسرائيل" في تدمير التراث الثقافي في غزة دون عقاب، فإن البشرية جمعاء ستخسر حينها وليس غزة وحدها.

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف