آراء وتحليلات
ألمانيا تقمع منتقدي "إسرائيل".. بالترهيب وكمّ الأفواه
د. علي دربج - باحث وأستاذ جامعي
ليس من قبيل المبالغة القول إن مواقف الحكومة الألمانية ومستشارها أولاف شولتز الداعم للكيان الإسرائيلي ومذابحه بحق الشعب الفلسطيني، تجاوزت وتقدمت على الولايات المتحدة نفسها، الأب الروحي للكيان الغاصب وسبب استمراره.
من هنا، لم يكتفِ شولتز بالدعوة إلى استمرار الإبادة ضد عزة، بل إن دولته التي تزعم الحرص على حرية مواطنيها ومعتقداتهم وتضع هذه النصوص في مقدمة قوانينها ودستورها، أصبحت أشبه بالممالك والأنظمة الديكتاتورية والشمولية، إلى حد أنها، منذ عملية طوفان الأقصى حتى يومنا هذا، عمدت إلى اتخاذ تدابير وإجراءات بوليسية غير مسبوقة، عملت خلالها على قمع وخنق أي صوت أو رأي أو تحرك شعبي ينتقد "إسرائيل" وحربها الدموية.
ليس هذا فحسب، فالحظر الصارم الذي فرضته على التحركات الاحتجاجات الشعبية داخل ألمانيا أو الوقفات والمسيرات التضامنية أو التظاهرات والفعاليات الثقافية المناصرة لغزة، يوصف بالأقصى والأشدّ في أوروبا، وربما في العالم أجمع.
ما هي أبرز مظاهر القمع الألمانية تجاه مناصرة غزة؟
في الأسابيع الأخيرة، ألغت الحكومة الألمانية عددًا من الفعاليات الثقافية بذريعة الابتعاد عن أي شيء يمكن عدّه معاديًا للسامية، حتى أن العديد من أفراد الجالية اليهودية في هذا البلد لم يسلموا من قرارات المنع تلك، فيما الهدف كان التدقيق بمحتوى الفعاليات والمواقف السياسية للمنظمين.
إدانة إحدى الفنانات اليهوديات تدعى بريتز- وهي من جنوب أفريقيا تعيش في برلين- لحركة المقاومة الإسلامية حماس، كانت قد حظيت برضى واستحسان المسؤولين الألمان، لكن بمجرد أن انتقدت أفعال حكومة العدو في غزة – وهي أفعال قالت إنها جعلت اليهود في جميع أنحاء العالم أقل أمانًا ـــ عمدت السلطات الألمانية الى إلغاء معرضها في متحف سارلاند. الفنانة اليهودية الأصل، قرأت عن هذا المنع في وسائل الإعلام المحلية، وعلقت قائلة إن: "ما يحدث في عالم الفن من خلال سلسلة الإلغاءات هذه يكاد يكون بمثابة تطهير لأي شخص لديه أي نوع من التعاطف مع المدنيين الفلسطينيين".
وبالمثل، مُنع معرض صور كان من المقرر افتتاحه في جنوب غرب ألمانيا، بعد أن كتب أمين المعرض منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، بما في ذلك واحدة وصفت ما يحصل بعزة "بالإبادة الجماعية".
إضافة الى ذلك، وبعد أن كتبت الصحفية الأمريكية الروسية ماشا جيسن في صحيفة "نيويوركر" أن غزة كانت مثل الحي اليهودي تحت الاحتلال النازي، قامت مؤسسة ألمانية بتحجيم الحدث الذي كان من المقرر أن تحصل فيه على جائزة للفكر السياسي.
وعلى المنوال ذاته، أرجأ معرض فرانكفورت للكتاب حفل توزيع جوائز الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي إلى أجل غير مسمى. كذلك، منعت السلطات الألمانية أحد الموسيقيين من إكمال حفلته، لأنه كان يرتدي قميصًا مكتوبًا عليه كلمة فلسطين باللغة العربية.
ولهذه الغاية، كتبت مجموعة من الفنانين والكّتاب والباحثين في ألمانيا رسالة مفتوحة للرأي العام الألماني جاء فيها: أسكتت المؤسسات الثقافية الكبرى نفسها، وألغت الإنتاجات التي تتعامل مع الصراع وأزاحت المنصات الشخصيات التي قد تنتقد تصرفات "إسرائيل".. لقد أنتجت هذه الرقابة الذاتية الطوعية مناخًا من الخوف والغضب والصمت. كل هذا يتمّ تحت شعار حماية اليهود ودعم "دولة إسرائيل"".
ما قصة مركز العيون الثقافي؟
حملات التهديد والترهيب التي تمارسها الحكومة الألمانية بحق الكيانات والمؤسسات المعارضة لـ"إسرائيل" بلغت ذروتها في برلين، بعدما سحبت الدولة التمويل لواحدة من أكبر المساحات الثقافية التي يديرها الأشخاص الملونون ـــــ يبلغ مليون دولار سنويًا ــــ في أعقاب تنظيم فعالية مع منظمة يهودية يسارية.
ولهذه الغاية، قالت لونا سبو، إحدى مؤسسي مركز العيون الثقافي إن: "الفعالية التي نظمتها المجموعة المناهضة للصهيونية "الصوت اليهودي من أجل السلام العادل في الشرق الأوسط" صُوّرت على أنها وقفة احتجاجية، على طراز شيفا يهودي (مدة الحداد في اليهودية، وهي تستمر أسبوعًا يناقش فيها الأفراد خسارتهم) لإحياء ذكرى ضحايا الإرهاب"، كاشفة أن: "الحضور كانوا بمعظمهم من اليهود والألمان، إلى جانب بعض الفلسطينيين".
ما تجدر معرفته أن شرطة برلين التي تحظر المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، كانت قد حذرت مركز العيون الثقافي بشكل خاص من استضافة فعاليات مع مجموعة الصوت اليهودي، وهي جزء من حركة مقاطعة "إسرائيل" التي صنّفها البرلمان الألماني على أنها معادية للسامية في العام 2019.
وتعليقًا على ذلك قالت سبو: "لا أعتقد أن هناك أي شيء أكثر خطورة على الحرية الفنية وحرية التعبير من وجود قيود سياسية عليها، كما هو الحال هنا في ألمانيا".
ما هو موقف الحكومة الألمانية؟
عمليًا، وفي موقف مثير للسخرية، يصرّ المسؤولون الألمان على أن انتقاد "إسرائيل" مسموح به في بلادهم، وكذلك دعم حقوق الفلسطينيين. ولهذا، أشار نائب المستشار األماني روبرت هابيك في خطاب بارز إلى أن الحكومة الألمانية، دعت "إسرائيل" إلى حماية السكان المدنيين في غزة، وشجبت المعاناة وطالبت بتوصيل المياه والأدوية والإمدادات الأخرى. لكنه قال: "لا يوجد مبرر لتأييد تدمير "إسرائيل" أو جعل اليهود يخشون العيش بحرية وأمان في ألمانيا".
وبموازاة ذلك، يؤكد السياسيون الألمان بانتظام أن الدعم الثابت لـ"إسرائيل" وحماية الحياة اليهودية هما جزء من مسؤولية ألمانيا التاريخية الحديثة وسبب الدولة. لكن النقاد يقولون إن الموقف الرسمي يقيّد بشكل مفرط أصوات الأشخاص الذين لا يحملون مثل وجهات النظر هذه بشأن الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني.
أما الحجة التي يلجأ إليها القادة الألمان لتبرير قراراتهم القمعية، فهي زيادة عدد الحوادث المحلية المعادية للسامية بنسبة 320% في المرحلة ما بين 7 أكتوبر و9 نوفمبر الماضيين، مقارنة بالمرحلة نفسها من العام الماضي.
ما تجدر معرفته في هذا الإطار أن السلطات الألمانية تخفي حقيقة أن 84% من الجرائم المعادية للسامية ارتكبها متطرفون يمينيون، - وليس العرب أو المسلمون- بحسب أرقام وزارة الداخلية الألمانية الصادرة هذا العام. زد على ذلك أن استطلاعات الرأي تؤكد أن معاداة السامية اليمينية آخذة في الارتفاع، وهو ما يتغاضى عنه حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف.
وتعقيبا على ذلك، كتب المؤرخ يورغن زيميرر، وهو يهودي ألماني، في بيان تضامن مع بريتز: "في ألمانيا اليوم، خرج الالتزام الجدير والمكتسب بشق الأنفس بمكافحة معاداة السامية عن المسار الصحيح". وأضاف: "في اللحظة نفسها التي يجمع فيها حزب اليمين المتطرف، حزب البديل من أجل ألمانيا، قوته الانتخابية، فإنّ مكافحة معاداة السامية تستهدف بشكل متزايد الأصوات التقدمية المنشقة عن الفهم الألماني السائد للوضع السياسي في "إسرائيل"".
الإجراءات- أعلاه- قد تبدو سهلة، أمام القرار الذي كانت اتخذته ولاية ساكسونيا بشرق ألمانيا هذا الشهر، وأعلنت فيه أن الالتزام المكتوب بحق "إسرائيل" في الوجود سيصبح شرطا للحصول على الجنسية.
في المحصلة، إن ما يجري في ألمانيا سيتحوّل إلى سياسة رسمية على المستوى الوطني، خصوصًا أن أحزاب الائتلاف الحاكم الثلاثة في ألمانيا، تريد قوننة ما نصه أن: "المواقف أو الأفعال المعادية للسامية" يجب أن تجرّ على أصحابها استبعاد حصولهم على الجنسية، في حين دعت أكبر مجموعة معارضة برلمانية إلى الترحيل الفعلي للمواطنين غير الألمان المدانين بارتكاب "جريمة" ذات طابع "معادي للسامية".
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
01/10/2024