آراء وتحليلات
أوستين: غياب أو تغييب؟
حيّان نيّوف
أن يغيب وزير حرب دولة عظمى كالولايات المتحدة عن عمله ويدخل المستشفى وتجرى له عملية جراحية ينتج عنها مضاعفات صحية، كلّ ذلك دون أن يعلم به أحد سواء من أركان وزارته أو أيّ من مؤسسات القرار والإدارة والاستخبارات في واشنطن، فهذا من العجب العجاب غير القابل للتصديق مطلقًا، ولا يمكن إقناع الشعب الأميركي به أو حتّى أي مراقب داخل الولايات المتحدة وخارجها.
ما جرى تداوله في وسائل الإعلام الأميركـية إلى اليوم هو أن أوستين ما زال في المستشفى نتيجة مضاعفات عملية جراحية أجريت له وأنه لم يبلغ أحدًا دخوله المستشفى، بما فيهم البيت الأبيض الذي علم بدخوله للمستشفى بعد ثلاثة أيام أو خمسة أيام وفقًا لمصادر أخرى.
وفي الوقت الذي انشغل فيه الشارع الأميركي وكذلك الوسط السياسي والإعلامي بهذه القضية، تعرضت إدارة بايدن لانتقادات شديدة من قبل الجمهوريين وحتّى الديمقراطيين، وسط مطالبات بإقالة وزير الحرب والتحقيق بالقضية. صحيح أن القضية لا زالت غامضة ولم تتضح خلفياتها، لكن المنطق يقول بأن غيابه أو تغييبه قد بات مثيرًا للشبهات.
وعند محاولة تحليل الأخبار الواردة حول تلك القضية فإنه لا يمكننا تجاهل طبيعة المسؤولية التي يتولاها أوستين داخل الإدارة الأميركية، وهو بصفته وزيرًا للحرب يمثل الشخصية الثالثة في الإدارة بعد الرئيس بايدن ووزير خارجيته بلينكن.
انطلاقًا من ذلك فإن غيابه أو تغيببه من المفترض أنه مرتبط بشكل أو بآخر بطبيعة المسؤولية التي كان يتولاها كوزير للحرب، وبالتالي بالمهمات والمسؤوليات والقرارات التي صدرت عن البنتاجون خلال توليه لرئاسته.
وعند الحديث عن تلك المسؤوليات فإنه لا يمكن إغفال اثنين من أخطر المعارك التاريخية التي تبناها البنتاجون أو تبنى الإشراف عليها والتخطيط لها خلال ولاية أوستين، ونقصد الحرب في اوكرانيا، وكذلك الحرب على غزّة، وما تمثله المواجهة في تلك الساحات من أهمية قصوى لمكانة ومستقبل واشنطن لقرن قادم على الأقل وفي ظل الصراع العالمي نحو عالم جديد.
وعليه فإنه من غير المستبعد أن يكون الفشل العسكري الاستراتيجي الذي أصيبت به واشنطن في الشرق الأوسط بفعل عملية طوفان الأقصى ونتائجها، وكذلك الهزيمة التي هي على وشك أن تمنى بها في أوكرانيا، أن يكون ذلك بالتحديد هو ما يقف خلف عملية غياب أو تغييب أوستين المشبوهة.
في الساحة الأوكرانية شهد العالم أجمع كيف فشل الهجوم الأوكراني المضاد الذي خططت له واشنطن بالرغم من الدعم الهائل واللامحدود لأوكرانيا، وما نتج عن ذلك من تقدم روسي كاسح على طول خط الجبهة والذي جعل روسيا قاب قوسين أو أدنى من إعلان النصر وهزيمة الغرب الجماعي بقيادة واشنطن، هذا إن لم تتخذ قرارًا جديدًا بتوسيع المواجهة في أوكرانيا وتحقيق المزيد من الانتصارات والتقدم على الأرض.
وفي الشرق الأوسط فإن الفشل العسكري الأميركي شمل غزّة والعراق وسورية ولبنان والبحر الأحمر واليمن وبحر العرب والخليج، ولم يقتصر على الفشل بمنع هزيمة "اسرائيل" فقط، بل تعداه إلى الفشل الذريع في حماية القوات الأميركية في المنطقة والتي تلقت عشرات بل ومئات الضربات التي نتج عنها قتلى وجرحى أميركيين يتم التكتم على أعدادهم، والفشل الأكبر تمثل في عدم التمكّن من حماية المصالح الجيوسياسية والجيواقتصادية للولايات المتحدة في الإقليم ككل.
إذًا؛ كلّ ذلك يوحي بأن ما جرى لأوستين هو عملية تغييب قسري لا غياب طبيعي، فإذا سلمنا بهذا الخيار يمكننا القول إن عملية تغييب أوستين يمكن إرجاعها لواحدة من احتمالات عدة إن أردنا أن نسير في خيار الشك بما جرى له:
• أن تكون إدارة بايدن قررت أن تجعل من أوستين شماعة لفشلها في المواجهة في كلّ من أوكرانيا والشرق الاوسط، وهذا يتطلب تغييبه أو إسكاته.
• أن تكون واشنطن قد اكتشفت بأن اوستين متورط لصالح جهة خارجية ما، وهو ما تسبب بالهزائم الأميركية.
• أن تكون إدارة بايدن قد علمت بأن اوستين قد قرر الإنسحاب من إدارة بايدن في هذه اللحظة الحرجة من الاشتباك احتجاجًا على قرارات غير منطقية تفرض عليه، واحتجاجًا على نتائج كارثية تسببت بها حماقات بايدن ومن يقف خلفه، فقررت ازاته من المشهد حتّى لا تظهر بمظهر الضعف والإنقسام في هذه المرحلة التي تسبق انطلاق السباق الرئاسي.
• أن تكون "اسرائيل" هي من تقف خلف تغييب أوستين بشكل أو بآخر بعد تصريحات له حذر فيها "اسرائيل" من هزيمة استراتيجية في غزّة إن لم توقف هجومها البري، وتعرض لانتقادات شديدة من اليمين الصهيوني والاسرائيلي، حتّى إن السيناتور الجمهوري "ليندسي غراهام" المعروف بولائه لـ"إسرائيل" طالبه بالاستقالة بعد تلك التصريحات.
مهما تكن الأسباب التي تقف خلف ما جرى لأوستين، فإن الانقسامات داخل إدارة بايدن طفت على السطح منذ فشل الهجوم الأوكراني المضاد، وتعمقت بعد طوفان الأقصى احتجاجًا على السياسات والقرارات العسكرية التي نتج عنها الإساءة لسمعة واشنطن الدولية واهتزاز صورتها على الصعيد الإنساني بالإضافة إلى العسكري والسياسي، وتحميلها مسؤولية الجرائم التي ارتكبت في غزّة، واستمرار الحرب في أوكرانيا.
إن من يراجع السلوك الأميركي منذ بدء الطوفان إلى زيارة بلينكن الحالية، يمكنه أن يستنتج أن الموقف الأميركي انتقل من الطابع العسكري الذي كان يتبنى قيادة المعركة علنا وبكل قوة ودعم، إلى الطابع السياسي والدبلوماسي الذي بات يستجدي الحل لإيقاف التراجع وتجنب الهزيمة الكبرى ومنع توسيع الصراع، وإن من يراجع السلوك الأميركي في أوكرانيا يدرك أيضًا أن واشنطن تخلت عن حليفتها كييف وتبحث عن مخرج يستر فضيحتها.
لا شك بأن إدارة بايدن عندما زجت بالخيار العسكري في البداية كانت تعتمد على تقييمات وقرارات وزارة الحرب بالدرجة الأولى، ولاحقًا اكتشفت بأن الميزان العسكري خاسر وأن كلّ تقييماتها العسكرية والاستخباراتية كانت خاطئة.
وعلى الأغلب فإن أوستين لم يكن سوى كبش فداء وضحية للفشل الذريع لواشنطن بغض النظر عن السبب الذي يقف خلف تغييبه، والذي من شبه المؤكد أنه لم يكن بريئًا.