آراء وتحليلات
تحجيم الغطرسة الأمريكية بعقل بارد
بقلم د. حسن أحمد حسن(*)
لا يختلف عاقلان على أن ما تشهده منطقتنا بخاصة والعالم بعامة استثنائي ومعقد وخطير، وهذا يدفع العديد من الكتاب والمحللين لتقديم قراءات قد تكون مستعجلة نظراً للتخوف الداخلي من التداعيات المحتملة التي قد يفرزها أي جديد، وما أكثر ما يستجد من مفاجآت لم تكن تخطر على ذهن أكثر الناس تشاؤماً أو تفاؤلاً، الأمر الذي يتطلب من الجميع التعود على سماع وجهات النظر الأخرى حتى لو كانت مستفزة بشكل أو بآخر، والمتابع لمنصات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام يجد نفسه أمام كم هائل من القراءات المتداخلة لأي موضوع يتعلق بالصراع الدائر المزمن والمتصاعد في منطقة الشرق الأوسط، بعد أن اضطرت الولايات المتحدة الأمريكية وكل من يدور في فلكها الآسن لخلع الأقنعة المتعددة التي كان يتم ارتداؤها على امتداد عقود، فظهرت العصرنة والديمقراطية المدعاة بإطلاق العنان للقوة المفرطة ولأدوات القتل والفتك والإبادة لتحصد أرواح عشرات الآلاف من الفلسطينيين الأبرياء من دون أن يرف للضمير العالمي جفن مع أن ما لا يقل عن 70% من الشهداء هم من الأطفال والنساء والعجز والأطباء والطواقم الصحية والإعلاميين، وتمت مصادرة إرادة المجتمع الدولي وتعطيل مجلس الأمن من أية إمكانية للتدخل الإنساني البناء جراء سطوة واشنطن وفجورها في استخدام حق النقض "الفيتو" لتبرهن للعالم كيف تكون الديمقراطية الصهيو ـــ أمريكية على حقيقتها التي لم تميز بين شمال ووسط وجنوب لقطاع غزة ، بل أمطرته بكليته بالصواريخ والقذائف ذات الطاقة التدميرية الفتاكة الكفيلة بتدمير كل مظاهر الحياة إلى درجة ثبت فيها أن ما تم استخدامه ضد غزة وأهلها من المتفجرات والقذائف يوازي عدة قنابل نووية من تلك التي ألقتها القوات الأمريكية على هورشيما وناغازاكي في نهاية الحرب العالمية الثانية.
ارتباطاً بما ذكر، وعندما تجلَّت الأصالة اليمنية بقرار شجاع وجريء وأخلاقي وإنساني لوقف حمام الدم الفلسطيني بمنع سفن الكيان الصهيوني القاتل من المرور في مضيق باب المندب، ومنع السفن التي تتجه إلى الموانئ الإسرائيلية من المرور إلى أن يتم رفع الحصار الخانق والوحشي عن سكان قطاع غزة الصامدين في وجه آلة القتل والإبادة الجماعية منذ قرابة مئة يوم، فسرعان ما انتقلت الوحشية الأمريكية إلى خانة جديدة عبر استصدار القرار رقم /2722/ من مجلس الأمن بتاريخ: 10/1/2024م. لإدانة الحس الإنساني لدى اليمنيين الذي يجسدون بحق معاني العروبة والإسلام والرجولة والنبل والشهامة، ومذ لحظة صدور قرار مجلس الأمن ومنصات التواصل الاجتماعي تغرق بالنقاشات ووجهات النظر والآراء المختلط بعضها ببعض مما يزيد الصورة ضبابية، ويترك الأفق مفتوحاً على المجهول وعلى جميع الاحتمالات، ويمكن باختصار شديد الإشارة إلى عدد من النقاط الجديرة بالتوقف عندها، ومنها:
• وجود نزعة واضحة لتعميم صرة من اليأس والقنوط تستند إلى فكرة جبروت الولايات المتحدة الأمريكية وقدرتها على فرض ما تريده بالقوة على العالم أجمع، وهذا ما حرصت الإمبراطوريات الإعلامية على حشره في أنوف الناس منذ الإعلان عن استقدام الأساطيل والبوارج الحربية وحاملات الطائرات الأمريكية والناتوية إلى المنطقة غداة نجاح ملحمة طوفان الأقصى في مدها الأولي في السابع من تشرين الأول 2023، حيث تم التركيز على أن هذه البلطجة الأمريكية رسالة للعالم أجمع مفادها: أن واشنطن صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة، وما تريده ينفذ في المنطقة وغيرها، وليس أمام جميع القوى الإقليمية والكونية إلا الإذعان لمنطق فائض القوة المتحكم بالسياسة الأمريكية المناصرة للإجرام والوحشية الإسرائيلية رغم أنف المجتمع الدولي.
• صدور القرار 2722 من مجلس الأمن وعدم لجوء موسكو أو بكين إلى حق النقض الفيتو أثار الكثير من اللغط، وفُهِمَ على أنه تأكيد علني واعتراف رسمي من القوتين العظميين باستمرارية الأحادية القطبية تجنباً لمزيد من التصعيد الذي قد يوسع نطاق الحرب الدائرة ويهدد بخروجها عن السيطرة، أي أن القرار يتضمن الإقرار باستعادة الهيمنة الأمريكية على العالم بكليته، وليس فقط على مجلس الأمن، وقد يكون لأصحاب هذه النظرة مسوغاتهم، لكن أذا أعدنا قراءة المشهد بعقل أكثر برودة قد تتبلور رؤى أخرى لا يجوز تسفيهها، أو استبعادها من مروحة الاحتمالات الممكنة.
• من حق المتابع العادي أن يتساءل: لو أن روسيا أو الصين استخدمت حق النقض الفيتو لمنع صدور قرار من مجلس الأمن هل كان ذلك سيمنع واشنطن ولندن ومن معهما من تنفيذ العدوان الموصوف والوقح على الدولة اليمنية، ولا سيما أن قرار مجلس الأمن الصادر لا يمنح واشتطن أو غيرها حق استخدام القوة ضد اليمن، بل يقتصر على إدانة اليمن بمنع السفن الإسرائيلية والمتوجهة إلى موانئ الكيان من المرور عبر باب المندب؟ وبالتالي العدوان الذي حصل فجر الجمعة 12/1/2024 متناقض مع كل ما له علاقة بالقانون الدولي وميثاق هيئة الأمم المتحدة، ويرقى إلى مستوى الجريمة مكتملة الأركان، ولا يمكن لواشنطن وحلفائها التستر بالقرار الصادر كذريعة لتنفيذ اعتداء خارجي سافر على اليمن، ومن حق اليمنيين الدفاع عن كرامتهم وحقوقهم باستخدام جميع الوسائل المتاحة، وكل ما يقومون به لا يتجاوز جق الدفاع المشروع عن النفس.
• التساؤل الآخر الذي يفرض ذاته هنا: ماذا لو كان عدم استخدام الفيتو متعمداً لتوريط واشنطن أكثر مما هي متورطة في المنطقة، وإغراقها برمالها ومياهها طالما ان الحسابات الموضوعية تقول: ذروة ردة الفعل الامريكية لن تتجاوز القصف من بعيد، وهو ما اعتاد عليه اليمنيون منذ سنوات، وهم قادرون على التعامل مع تداعياته، وحتى الرد عليه، وأي رد يمني على عدوانية أمريكا سيسرع في تآكل ما تبقى من هيبة ونفوذ وسطوة، ويخفف الضغط القائم أو المتوقع في أوكرانيا ومضيق تايوان؟ وبالتالي قد لا يكون الموضوع دليلاً على اليد الطولى الأمريكية، بل على التورط الإلزامي بعد التغيير الجيوبولتيكي الذي فرضه الموقف اليمني الشجاع.
• سياسات الدول تنطلق من المصالح العليا، وليست جمعيات خيرية، وغير ذات جدوى المراهنة على أن روسيا أو الصين ستخوضان حرباً عالمية جديدة مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفها كرمى هذه الدولة، أو هذا الطرف أو ذاك، والأمر الآخر الذي يجب الإشارة إليه عدم نسيان أن موسكو و بكين ليستا من محور المقاومة، ومحور المقاومة ليس محسوباً على أي منهما، ولم يسبق لكلا العاصمتين أن قالت أنها مشغولة بمناكفة السياسة الأمريكية، بل على العكس، الجميع حريص على تدوير الزوايا، وإن كانت الغطرسة الأمريكية تشي بغير ذلك، لكن لتعامل الهادئ والمدروس والمتزن هو ما يمكّن أطراف محور المقاومة من مواجهة العدائية الصهيو ــ أمريكية المنفلتة من كل عقال، وأي إنجاز يمكن تحقيقه يضاف إلى خزانة الخيبات التي تتم مراكمتها في صندوق العنجهية الأمريكية إلى أن تجد واشنطن نفسها ملزمة إما بمغادرة المنطقة، وإما بتخفيف حدة تبنيّها لسياسات حكام تل أبيب بعد أن أخفق الكيان المؤقت في أداء دوره الوظيفي، وليس هذا فحسب، بل ثبت عجزه عن حماية نفسه واستمراريته إلا بغطاء أمريكي ـ أطلسي.
• العدوان السافر على اليمن يمثل الوجه الآخر للوحشية الإسرائيلية ضد غزة بخاصة وفلسطين والمنطقة بعامة، والتخلص من هكذا وحوش لا يكون بالضربة القاضية لأنها متعذرة وغير ممكنة، بل يكون بالنقاط، وهذا ما أشار إليه سماحة السيد حسن نصر الله، وكل دعوة لليأس أو القنوط مما آلت إليه الأوضاع تخدم الأعداء، لأن مؤشرات الواقع القائم تؤكد أن أطراف محور المقاومة كل من موقعه وظروفه يزداد قوة وفاعلية، بغض النظر عن مقدار الضريبة الباهظة المطلوب دفعها، وقد دفع القسم الأكبر والأصعب والأخطر منها، والاشتباك اليوم في الذروة، ولا يجوز إطلاق الأحكام المسبقة، فالأمور تقاس بخواتيمها التي لن تكون إلا كما يريد أصحاب الحق الذين أثبتوا أنهم أبناء الحياة والجديرون بحياة السيادة والكرامة.
• ما يحدث بتداعياته التي ما تزال مجهولة المدى قد يزيد من الانقسام القائم في مفاصل صنع القرار الأمريكي بين من يخشى الغرق في أوحال المنطقة ومياهها، وبين من يرى في اللوحة المتشكلة فرصة يحب استغلالها، وأداء محور المقاومة كفيل بالبرهنة لأولئك أن حساباتهم خاطئة، وإلى أن يكتشفوا ذاك الخطأ تكون تداعيات المواجهة المفتوحة أفرزت معطيات جديدة تستطيع بقية القوى المتأففة من العنجهية الأمريكية أن تبني عليها لإتمام تهيئة البيئة الإستراتيجية المطلوبة والمناسبة لإسدال الستار على عصر الأحادية القطبية، وإلى غير رجعة، وفي جميع الأحوال ليس أمام من يعيشون تهديد الحاضر والمستقبل إلا المضي قدماً في المواجهة وإدارة الصراع بعقلانية وموضوعية، وما يلوح في الأفق مؤشرات ومبشرات بآن معاً..
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
29/11/2024