آراء وتحليلات
بعد استهداف قواتها في الأردن.. واشنطن تستعجل التسوية
حيّان نيّوف
في الوقت الذي كانت فيه العاصمة الفرنسية باريس تشهد مباحثات مكثفة بقيادة مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية (CIA) "وليم بيرنز" ومشاركة رئيس "الموساد" الصهيوني "ديفيد برنياع"، ورئيس الوزراء القطري "محمد بن عبد الرحمن"، ورئيس المخابرات المصرية عباس كامل، بهدف الإعداد لمسودة أولية لاتفاق يتمحور حول وقف إطلاق نار في غزّة لمدة شهرين ويتضمن صفقة جزئية لتبادل الأسرى تشمل إطلاق سراح 100 أسير إسرائيلي في حوزة فصائل المقاومة الفلسطينية في غزّة، تلقت الولايات المتحدة ضربة كبيرة وتوعية استهدفت إحدى قواعدها في شمال شرق الأردن للمرة الأولى ونتج عنها سقوط ثلاثة قتلى من الجنود الأميركيين وعشرات الجرحى.
الهجوم النوعي في الأردن حمل رسائل عدة، خاصة أنه جاء بعيد قرار محكمة العدل الدوليّة التي أعطت لإسرائيل مهلة شهر لترتيب أوراقها ( وبالتأكيد بضغط أميركي ) من دون الإشارة إلى وقف إطلاق النار.
وعلى الرغم من أن أغلب التحليلات أرجعت الإصرار الأميركي على اعتبار الهجوم الأخير الذي أدى إلى مقتل ثلاثة جنود أميركيين وجرح العشرات، قد وقع داخل الأراضي الأردنية، أرجعته لأسباب تتعلق بشرعية وجود القوات الأميركية في الأردن على عكس وجودها في سورية، ومن ثم تريد إدارة بايدن تفادي الحرج والضغط الذي قد تتعرض له لإخراج قواتها من سورية.
فإن وجهة النظر هذه لا تبدو مقنعة خاصة ان واشنطن اعتادت تجاهل الجانب القانونيّ لوجودها غير الشرعي في سورية منذ سيطرت على أجزاء واسعة في شرق الفرات والتنف دون إذن أو اتفاق مع الحكومة السورية.
بالإضافة لذلك فإنه يمكن نقض هذا التحليل من زوايا عدة وبالتالي تقدير الأسباب الحقيقية للغضب الأميركي من هذا الاستهداف والإصرار الأميركي على الاعتراف بأن القاعدة المستهدفة "البرج 22" يقع داخل الأراضي الأردنية وليس داخل سورية.
تدرك واشنطن بالتأكيد بأن هجومًا مماثلًا قد يقع في أي لحظة لقواتها في سورية ويتسبب بقتل العديد من الجنود، ومن ثم فلا معنى للقول بأنها تريد الهروب من فكرة أن الاستهداف وقع خارج الأراضي السورية لأسباب قانونية متعلقة بوجودها غير الشرعي، ولو كان الأمر متعلقاً بالتغطية على عدم شرعية وجودها في سورية، فإن التضليل المحتمل من قبل واشنطن بات مكشوفًا لخصومها وسيشكل نقطة ضعف استراتيجية ستدفع هؤلاء الخصوم لتكرار ما جرى في الأردن مرة جديدة داخل الأراضي السورية بعد ان تكون واشنطن قد كشفت عن مدى الإحراج والضغط الداخلي والقانونيّ الذي تسبب به نفيها لوقوع الهجوم في الداخل السوري.
وحقيقة الأمر هو أن ما أثار غضب واشنطن بالإضافة لحصيلة القتلى والجرحى من جنودها جراء هذه العملية متعلق بعوامل أخرى، وأهمها أن الأردن قد دخل في مسرح العمليات وهذا يعني توسيعًا لدائرة الصراع وهو ما تسعى واشنطن لتجنبه، وعامل آخر يتمثل بخشية واشنطن من تحول وجودها العسكري في الأردن إلى ورقة للتفاوض والضغط بعد إدخاله في معادلات الصراع، وأما العامل الثالث وهو الأكثر خطرا بنظر واشنطن فيتعلق بأمن قواتها في الأردن، وهي التي سعت عبر اتفاقيتها العسكرية معه إلى تحويل هذا البلد إلى أكبر قاعدة عسكرية لها في المنطقة وكانت تسعى للحصول على ضمانات تتعلق ببقاء قواتها في هذا البلد خارج دائرة الاستهداف والاشتباك.
إذًا واشنطن أصرت على الاعتراف بأن الهجوم وقع داخل الأردن، وأصرت على تضخيم الحادثة وتمييزها عن 165 هجومًا تعرضت لها قواتها في العراق وسورية، فقط لتقول إن وجودها في الأردن خطٌ احمر.
أما النظام الأردني الذي نفى بدايةً أن يكون الهجوم وقع داخل الأراضي الأردنية ثمّ عاد وقال بأنه وقع في منطقة حدودية مع سورية، فهو يخشى تحول الأراضي الأردنية إلى ميدان اشتباك بين واشنطن وفصائل المقاومة، ويبدو أنه لم يدرك عواقب مواقفه الخطيرة التي اتّخذها منذ طوفان الأقصى، سواء المتعلق منها باعتراض الصواريخ والمسيرات المتجهة للكيان الصهيوني، أو تسهيل عبور ما يحتاجه الكيان الصهيوني بعد الحصار البحري الذي فرض عليه من قبل اليمن في البحر الأحمر، أو عمليات جيشه داخل الأراضي السورية بحجة مكافحة مهربي المخدرات.
وبالرغم من الضغط الداخلي الذي تتعرض له إدارة بايدن للرد على هجوم الأردن، وترافق هذا الضغط مع بروباغندا إعلامية تمارسها إدارة بايدن، فإن تريث إدارة بايدن في اللجوء إلى الرد السريع نابع من خشيتها من أن يتسبب ردها في اشتعال المنطقة، وأن يكون ردها غير المحسوب سببًا لمزيد من العمليات التي ستستهدف قواتها وقواعدها في الإقليم بما فيها وجودها العسكري في الأردن.
وعليه فإن واشنطن اختارت التريث قبل الرد على الرغم من صعوبة ابتلاعها للضربة التي تعرضت لها قواتها في الأردن، كما أنها تخشى بأن يؤدي ردها غير المحسوب إلى انهيار للعمل السياسي الذي أنتجته اجتماعات باريس والذي يؤسس لوقف التصعيد.
وبالرغم من أن قرار الرد قد اتّخذ بعد اجتماع لبايدن مع قادة البنتاجون، غير ان تصريحات المسؤولين الأميركيين تشير إلى أن التردّد والحذر ما زال سيد الموقف، وهذه التصريحات تنوعت بين عدم الرغبة في التصعيد وتوسيع الصراع وبين الرد على مراحل، وكلها تصب في خانة إيصال رسائل مفادها بأن واشنطن تخشى رد الفعل على أي عمل عسكري تقوم به.
سياسيًا فإن الأمور تبدو متجهة نحو وقف العدوان على غزّة، بعد تمسك محور المقاومة بشرط "وقف العدوان أولا"، والقرار متروك لفصائل المقاومة الفلسطينية التي ستتّخذ القرار النهائي بما يخص مسودة لقاء باريس.
وسياسيًا أيضًا فإن واشنطن تحاول إخراج التهدئة على طريقة أن يكون ردها القادم هو آخر اشتباك لتظهر بمظهر المنتصر أمام الداخل الأميركي.
بمعنى أن إدارة بايدن تسعى لتسويق انتصار وهمي يجنبها الضغوط التي تتعرض لها، وتتعامى وتتجاهل معادلات الردع والاشتباك الجديدة التي فرضها طوفان الأقصى في المنطقة، في الخليج وبحر العرب وباب المندب والبحر الأحمر، وفي شرق المتوسط وفلسطين وفي لبنان وسورية والعراق، حتّى الأردن.
حتّى الآن ما زالت واشنطن تستجدي عدم الرد على ردها الذي تسوق له كسلعة تجارية، وأغلب الظن أنها تريد ان يكون الإخراج وفق الآتي: رد أميركي شكلي يتبعه إعلان لوقف العدوان على الغزّة تحت عنوان مسودة اتفاق باريس.