آراء وتحليلات
العدوّ وروحية العماد
أحمد فؤاد
كان واضحًا منذ اللحظة الأولى لدخول محور المقاومة معركة إسناد غزة بعد عملية "طوفان الأقصى" بصورة فاعلة وخطى راسخة، أن كيان العدوّ ابتداءً قد تلقى أثقل ضربة في تاريخه كله. لم تقدم الشهور الأربعة للقتال إضافات أكثر على صلب أوضح حقيقة في الشرق الأوسط اليوم، أن ثأرًا واحدًا غاليًا تحقق، ومن حيث كان صاحبه الحاج عماد مغنية يحب ويرضى، حين لخص المطلوب بقوله الأشهر: "الهدف واضح ومحدّد ودقيق، إزالة "إسرائيل" من الوجود"، وليس أقل من ذلك.
الفارق العظيم بين كلّ حرب صهيونية ــ عربية وبين "طوفان الأقصى" بالذات كعملية واسعة المدى شديدة العمق، هو بوصلة "العماد" الذي وضعها في جملته الخالدة "اللي بتقاتل فينا هي الروح"؛ الروح الجهادية عالية المستوى والمقام رأت في قتالها أوسع من صدام بالنار والدم مع العدوّ الحقير، بل استشفت فيه مواجهة أوسع مع القوى الإمبراطورية القائمة في عالم اليوم، أميركا وأوروبا الغربية، وأنه إذا كان الصراع جذريًا وشاملًا، والكيان مجرد جزء قريب من أدوات الشر وعملياته، فإن الخطوط في هذه الحالة تكون قاطعة بين العدوّ ومن يمكن اعتباره صديقًا.
في الروحية التي تقاتل، كان الحاج عماد يجهز جيلًا جديدًا، سيقود العمل المقاوم في المنطقة كلها. كان الأثر الذي تركه هذا الشهاب، حسيني الفكر والروح، تمامًا مثل شهاب يتوهج ويندفع فجأة من فراغ المجهول، ومن حيث يظن العدوّ أنها جبهات آمنة، ليتحول إلى صاعق تفجير وسط براميل بارود جاهزة، وشظاياها المشتعلة تتدحرج على ساحة عربية وإقليمية ودولية واسعة وممتدة، جياشة بالفوضى والعنف الشديدين.
كانت الفكرة النورانية تنتظر لحظتها التاريخية المناسبة، ولم يكن أنسب من ختام عام 2023، حيث تصورت واشنطن أنها قادرة على محو فلسطين تمامًا من الوجود، إلغائها وإخفائها، بواحدة من حيلها السحرية، بالقفز إلى فرض التطبيع مع العالم العربي والإسلامي، وتحويل الكيان من عدو إلى قيادة شرعية للمنطقة، وربما حكم أيضًا، كانت القاهرة وعمان ساقطتين بالفعل، وكان المطلوب في المرحلة الثانية الخليج، والعين الأميركية عليمة بثرواته، وهي تريد أن تنقل عبء الإمداد والرعاية من جسدها المثقل، وسط ضجيج صراع عالمي يخصم كثيرًا من قدراتها ويحد من دعمها المفتوح والمستمرّ.
لم يكن طوفان الأقصى هذه المرة تجربة قاسية مرت على كيان العدوّ فهزت قوائمه وضعضعت أقدامه، بل كان تغيرًا في عقلية القتال العربية ــ وعقيدتها ــ بشكل جعل من الحرب عملية شاملة تلخص صراعنا على مصائرنا، ندخلها ونحن نعلم مقدمًا أنه صدام الأديان والسياسات، معركة الحقوق والأسلحة، اختبار الإرادة والدم، وأن العدوّ الأول هو الولايات المتحدة لا الكيان، وهي بذلك تجنبت سقطات الماضي كله، الذي كان يرى ضرورة مبدئية لتحديد أميركا، وهو ما كان يحكم علينا بالفشل في كلّ مرة، هذه المرة ومنذ اللحظة الأولى وهي حرب وجود لا حدود، وخطابات قادة المحور وسماحة السيد الأمين حسن نصر الله، لا تترك مجالًا للتأويل، أو المزايدة.
اليوم لا يجد الكيان حلًا إلا نشر القتل في غزّة بأوسع مدى وأسرع وتيرة بين المدنيين العزل، وتدمير كلّ ما يمكن تدميره، عساه يخرج باتفاق يحفظ له شيئًا من أسباب البقاء، وهو قد بلغ حدًا غير متصور في القصف العشوائي، مستخدمًا 66 ألف طن متفجرات على غزّة، والإحصاء حتّى الآن للشهداء تجاوز 35 ألفًا، بالإضافة لعشرات الآلاف من المصابين، وخسائر مدنية تقدر بـ 15 مليار دولار، ومقارنة مع المساحة الصغيرة جدًا (365 كيلومترًا مربعًا)، فإن حساب الدمار هو مأساة إنسانية لا سبيل لوصفها، وضعت 2. 3 مليون إنسان على شفا الموت.
ما نعرفه يقينًا من سيرة الشهيد المجاهد القائد الحاج عماد، الذي كانت روحه ترفرف حول فلسطين ولها، أن الموت الذي يصبه الكيان على غزّة، ويستعد لفتح بوابات جحيمه على رفح، لن يكسر غزّة ولن يكسر فلسطين، وأن الأرواح التي تقاتل العدوّ في لبنان وفلسطين والعراق واليمن لن تترك له مجالًا للهروب بجريمته الشنعاء، كما أحب أو تعوّد، هذه المرة لا يعاين الكيان كابوسًا واحدًا، بل كوابيس في كابوس، ويخوض قتاله المستنزف المرهق وهو يعرف مقدمًا أنه لن ينتصر، ولن يرى أبدًا راية بيضاء من جبهة تقاتل.
الكيان العاجز لا يملك بعد 130 يوم قتال إلا القتل أو التهديد بالقتل، لكنّه لا يعرف بعد أنه يواجه أرواحًا لا تعتبر الموت نهاية الطريق، ولا بدايته، ولا تراه صدفة حانية أو هدية عظيمة، بل تثق أنه لحظة القبول والتتويج الإلهي بأكاليل الكرامة والشرف، وأنه في هذا الجانب فإن الشهداء هم الأحياء الباقون، هم من نؤمن أنهم انتصروا فعلًا في الحياة.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
29/11/2024