آراء وتحليلات
فضيحة "نيويورك تايمز" حول اتهام المقاومة الفلسطينية بـ"العنف الجنسي" خلال طوفان الأقصى
د. علي دربج - باحث وأستاذ جامعي
يبدو أن دور الصحافة الغربية، وتحديدًا الأميركية، في التحريض على الحروب والقتل والعقاب الجماعي كما يجري حاليًا في غزّة، يأتي مكمّلًا لعمليات وأهداف صنّاع القرار في الكيان الإسرائيلي الفاشي وغرف البنتاغون في الولايات المتحدة.
إذ إنّ وسائل الإعلام الأميركية، خصوصًا الرئيسة منها، لم تكتفِ بالخروج عن القواعد المهنية والأخلاقية في تغطية حفلة الإبادة القائمة في القطاع؛ مثل: الحياد والموضوعية والنزاهة، وبالتالي تبني السردية الإسرائيلية المطلقة، وتجاهلها للفظائع والمذابح وحرب التجويع التي يرتكبها الاحتلال بحق الطفولة. بل وصل الأمر ببعضها، تحديدًا "نيويورك تايمز" إلى المشاركة المباشرة في التحريض على الفلسطينيين- كما فعلت غداة احتلال العراق 2003- وأباحت دماءهم أمام الرأي العام، بعدما نشرت ما أسمته "تحقيقًا" حول قيام عناصر "القسام" بعمليات "اغتصاب" مزعومة في مستوطنات غلاف غزّة في 7 أكتوبر الماضي، أقلّ ما يقال فيه، إنه لا يمت إلى المهنيّة بصلة. واللافت للنظر أنه قوبل بالثناء من قادة التحرير في الصحيفة، ولكن بشكوك من صحفيين آخرين في الـ"تايمز".
قصة اتهام المقاومة الفلسطينية بالاغتصاب ومسؤولية الصحيفة
مع تصاعد المعارضة العالمية ضدّ المحرقة الإسرائيلية في غزّة، كلّفت صحيفة "نيويورك تايمز" المخرجة الإسرائيلية والمسؤولة السابقة في المخابرات الجوية نات شوارتز بالعمل مع ابن أخ شريكها آدم سيلا والمراسل المخضرم في صحيفة الـ"تايمز" جيفري جيتلمان – هو مراسل دولي حائز على جائزة بوليتزر- على إنجاز تحقيق حول "عنف حماس الجنسي" المزعوم في 7 أكتوبر الماضي، والذي يمكن أن يعيد تشكيل الطريقة التي يفهم بها العالم الحرب الإسرائيلية المستمرة في القطاع.
استندت القصّة المفبركة التي جاءت تحت عنوان: "صرخات بلا كلمات: كيف استخدمت "حماس" العنف الجنسي كسلاح في 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي"، إلى أكثر من 150 مقابلة، وهي تكرار لـ"شهادات" نشرت سابقًا وفُضِحت أكاذيبها بالفعل. لكن اللافت أن ما يسمّى بـ"تحقيق" الـ"تايمز" يتوقف في الغالب على رواية مركزية واحدة، وهي اغتصاب "غال عبدوش" التي وصفتها الصحيفة المدّعية بأنها "المرأة ذات الثوب الأسود". كما فشل في تقديم أي دليل ملموس أو توثيق روايات الضحايا المزعومين، فضلًا عن افتقاره إلى الوقائع والبراهين الدامغة والمثّبتة.
الفضيحة أنّ شوارتز لم يكن لديها أية خبرة سابقة في إعداد التقارير. فشريكها في التقارير جيتلمان شرح لها الأساسيات، كما قالت في مقابلة إذاعية في 3 كانون الثاني الماضي، من إنتاج القناة 12 الإسرائيلية وأجريت باللغة العبرية. ومع ذلك تولت شوارتز وسيلا الغالبية العظمى من التقارير الميدانية، بينما ركز جيتلمان على التأطير والكتابة، والكلام على ذمة مصادر مطلعة في غرفة الأخبار في التايمز.
ليس هذا فحسب، تقول شوارتز إنها تشعر بضغوط متضاربة بين كونها مؤيدة للحرب الإسرائيلية ومسؤوليتها المهنية بصفتها مراسلة لصحيفة "تايمز"، ولهذا جاهرت بانحيازها لـ"إسرائيل" وجرائمها، بعدما عبّرت عن إعجابها بتغريدة على حسابها على وسائل التواصل الاجتماعي عن دعمها للكيان من خلال قولها إن: "إسرائيل بحاجة إلى تحويل القطاع إلى مسلخ". وجاء في المنشور أيضًا: "انتهك أي قاعدة، في طريقك إلى النصر.. إن الذين أمامنا حيوانات بشرية لا تتردّد في انتهاك الحد الأدنى من القواعد".
أكثر من ذلك، كشفت شوارتز أن جيتلمان كان قلقًا ويطرح أسئلة باستمرار: "هل لدينا أدلة الطب الشرعي؟ هل لدينا أدلة مرئية؟ بصرف النظر عن إخبار القارئ "حدث هذا"، ماذا يمكننا أن نقول؟ هل يمكننا معرفة ماذا حدث ولمن بالتحديد؟". شوارتز، أوضحت أنها كانت متردّدة في البداية في تولي المهمّة نظرًا إلى افتقارها إلى الخبرة في التحقيقات الاستقصائية، ومع ذلك، بدأت العمل مع جيتلمان على القصّة ملقية بالمسؤولية على القيادة العليا في "نيويورك تايمز" التي ألحّت عليها للقيام بهذا العمل بشكل لا لبس فيه، وقالت: "لقد دعمتنا الصحيفة بنسبة 200% وأعطتنا الوقت والاستثمار والموارد اللازمة للتعمق في هذا التحقيق بقدر ما يلزم".
كيف بدّلت "نيويورك تايمز" سياستها التحريرية؟
بعد وقت قصير من اندلاع الحرب، اشتكى بعض المحررين والمراسلين من أن معايير الصحيفة تمنعهم من الإشارة إلى "حماس" على أنها "إرهابية". كان الأساس المنطقي في قسم المعايير الذي أداره فيليب كوربيت لمدة 14 عامًا، هو أن مقتل مستوطنين إسرائيليين عمدًا لم يكن كافيًا لتصنيف مجموعة بالإرهابية. لكن كوربيت، الذي دافع عن هذه السياسة في مواجهة الضغوط، خسر بالنهاية. لذلك؛ أُرسل بريد إلكتروني في 19 أكتوبر الماضي/تشرين الأول، نيابة عن المحرر التنفيذي "جو كان"، والذي حلّ مكان كوربيت، يفيد بأن الأخير طلب التنحي عن منصبه. وفي هذا السياق؛ أكدت ثلاثة مصادر في غرفة الأخبار، أن الخطوة مرتبطة بالضغوط التي تعرض لها لتخفيف التغطية لصالح "إسرائيل".
على ماذا استند التحقيق؟ وما مدى صحة قصّة الاغتصاب؟
صحة قصّة "نيويورك تايمز" قوّضت على الفور بمجرد نشرها تقريبًا، بما في ذلك من عائلة "جال عبدوش" نفسها ــ تصفها التايمز بـ "المرأة" في الثوب الأسود؛ والتي تقول إنه لا يوجد دليل على تعرّض جال عبدوش للاغتصاب وأن صحيفة "نيويورك تايمز" أجرت معهم مقابلات بذرائع كاذبة. وما زاد الطين بلة، أنه لا يوجد أية وثائق وسجلات أو حتّى تقرير يثبت هذه مزاعم الاغتصاب. وعليه؛ فإن مهمّة الـ"تايمز" هدفت أولًا وأخيرًا إلى تعزيز رواية محدّدة سلفًا.
من هنا، وفي مقابلة "البودكاست" مع قناة 12 الإسرائيلية، تعترف شوارتز، وهي تروي تفاصيل جهودها المكثفة للحصول على تأكيد من المستشفيات الإسرائيلية ومراكز أزمات الاغتصاب ومرافق التعافي من الصدمات والخطوط الساخنة للاعتداءات الجنسية في "إسرائيل"، بعدم قدرتها على الحصول على تأكيد واحد من أي منهم. بما في ذلك الاتّصال بمدير الخط الساخن للاعتداء الجنسي في جنوب الكيان الذي أخبرها أنه ليس لديهم أي تقارير عن العنف الجنسي.
ليس هذا فحسب؛ فقد استندت شوارتز في جهودها الخاصة للعثور على أدلة على الاعتداء الجنسي إلى مزاعم شهود، سرعان ما بان ضعف رواياتهم وتناقضها. إذ ادعى شخص، حُدّد هويته في مقابلات إعلامية مجهولة على أنه مسعف من الوحدة الطبية 669 التابعة للقوات الجوية الإسرائيلية، أنه رأى أدلة على تعرّض فتاتين مراهقتين في كيبوتس "ناحال عوز" للاغتصاب والقتل في غرفة نومهما. ومع ذلك، قدم الرجل ادعاءات شنيعة أخرى، ما أدى إلى التشكيك في تقريره. كما ادعى التحقيق أن منقذًا آخر: "أخرج من القمامة" طفلًا تعرّض للطعن عدة مرات. وقال أيضًا إنه رأى: "عبارات عربية مكتوبة على مداخل المنازل... بدماء الناس الذين كانوا يعيشون في المنازل". لكن تبين أنه لا توجد مثل هذه الرسائل، وقد فُضحت قصّة الطفل في سلة المهملات. الطامة الكبرى هي أنه لا توجد فتاتان في الكيبوتس تناسب مع وصف المصدر. وفي مقابلات لاحقة، قامت شوارتز بتغيير الموقع، وانتقلت إلى كيبوتس بئيري. لكن هناك أيضًا، لم يتطابق أي من الضحايا الذين قُتلوا هناك مع الوصف أيضًا، كما ذكرت صحيفة موندويس. وخلال قيام شوارتز بالاتّصال بالناس في كيبوتس بئيري والكيبوتسات الأخرى التي استُهدفت في 7 أكتوبر في محاولة لتتبع القصّة، أقر كاتب التحقيق أنه: "لم يكن هناك شيء. ولم ير أو يسمع أحد أي شيء".
ماذا عن مزاعم اغتصاب غال عبدوش؟
في الحقيقة، أن نهج التزوير والتلفيق والتضليل الذي مارسته عن عمد صحيفة "نيويورك تايمز"، جرى فضحة في قضية غال عبدوش، عندما ظهرت على غلاف الصحيفة صورة مفجعة لعائلة غال– وهي عائلة يهودية مزراحية ــ حيث خصّصت الصحيفة ثلث تقريرها لقصة عبدوش. وتمحور التقرير حول مقطع فيديو التقطته امرأة تدعى إيدن ويسلي، في يوم 8 أكتوبر الماضي، ونشرته عبر حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي.
وعليه ذكرت صحيفة الـ"تايمز"، أن الشرطة الإسرائيلية استخدمت الفيديو دليلًا على وقوع الاغتصاب. لكن الغريب أنه لا يوجد حاليًّا أي أثر للفيديو على الانترنت على الرغم من ادعاء الـ"تايمز" "انتشاره بسرعة كبيرة". علاوة على ذلك، الصحافة الإسرائيلية، على الرغم من نقلها مئات القصص عن ضحايا 7 أكتوبر، لم تذكر قط "المرأة ذات الرداء الأسود" ،ولو مرة واحدة قبل قصّة 28 ديسمبر/كانون الأول.
أما الصدمة الكبرى، فقد وقعت في 29 ديسمبر/كانون الأول، بعدما نشر موقع "YNET" الإسرائيلي مقابلة مع إيتي براخا، هي والدة جال عبدوش. ففي المقابلة، تقول الأم إن الأسرة لم تكن تعلم شيئًا عن قضية الاعتداء الجنسي حتّى نشر المقال في صحيفة الـ"تايمز"، وأضافت "لم نكن نعرف شيئًا عن الاغتصاب على الإطلاق. لم نعرف ذلك إلا بعد أن اتصل بنا أحد صحفيي "نيويورك تايمز". قالوا إنهم طابقوا الأدلة وخلصوا إلى أنها تعرضت لاعتداء جنسي".
بموازاة ذلك، وفي الأول من يناير/كانون الثاني الماضي، ظهر نسيم عبدوش، وهو شقيق ناجي، في مقابلة على القناة 13 الإسرائيلية. وخلال المقابلة التي استمرت 14 دقيقة، نفى نسيم مرارًا وتكرارًا تعرّض أخت زوجته للاغتصاب. وأوضح أن شقيقه ناجي اتصل به الساعة السابعة صباحًا، مؤكدًا أن زوجته قتلت، وهو بجوار جثتها. ثمّ استمر في التواصل حتّى الساعة 7:44 ولم يذكر أي شيء يتعلق بالاعتداء الجنسي. كما ذكر نسيم أنه لم تبلغهم أي جهة رسمية بهذه الشكوك أو بهذا التحقيق، لا الشرطة ولا خبراء الطب الشرعي. وأكد عبدوش في المقابلة أن زوجة شقيقه لم تتعرض للاغتصاب، وأن "الإعلام اخترع ذلك".
وبالمثل أنكرت أخوات غال مزاعم الاغتصاب. ونشرت شقيقتها تالي برخا على إنستغرام قائلة: "لا أستطيع التعاون مع من يقول أشياء كثيرة غير صحيحة. أناشدكم أن تتوقفوا عن نشر الأكاذيب. إضافة إلى ذلك، تؤكد شقيقة عبدوش، ميرال ألتر، أنّ مراسلي الـ"تايمز" ذكروا أنهم "يريدون كتابة تقرير في ذكرى غال، وهذا كلّ شيء، إذا علمنا أن العنوان سيكون عن الاغتصاب والمذبحة، ما قبلنا ذلك أبدًا".
في المحصّلة، تلاعبت صحيفة "نيويورك تايمز" بعائلة مزراحية في خدمة الهسبارا (الدعاية) الإسرائيلية من أجل تحقيق إنجاز صحفي، وهو في الواقع ليس أكثر من تكرار للأخبار الكاذبة والدعاية الحكومية. لقد كان التحقيق بمثابة قنبلة حفّزت الدعم الغربي للحرب على غزة.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
01/10/2024