معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

فرض انسحاب أميركا من النيجر.. خطوة سيادية إفريقية
25/03/2024

فرض انسحاب أميركا من النيجر.. خطوة سيادية إفريقية

في السابع عشر من هذا الشهر، طلبت #النيجر شفهيًا من الحكومة الأميركية سحب قواتها من البلاد. تقرَّرَ إلغاء "اتفاق التعاون" بعد زيارة مسؤولين أميركيين للقاعدة الأميركية في شمالي النيجر بطريقة انتهكت الأعراف الدبلوماسية المتفق عليها. ومن الواضح أن هذه الزيارة جاءت على طريقة زيارة ترامب للقواعد الأميركية في عين العرب في العراق بعد توليه الحكم، وهي إن عبرت عن شيء فإنّها تعبر عن الصلافة الأميركية في التعامل مع "حلفائها المفترضين". ولكن يبدو أن الصلافة الأميركية لم تعد تعجب النيجريين الذين اتّخذوا مسارًا مستقلًا عن الغرب منذ انقلاب تموز/ يوليو في العام الماضي.

يعدّ الطلب النيجري أمرًا مقلقًا بالنسبة إلى الولايات المتحدة والغرب، وأحد أهم أسباب القلق أنهم يرون النيجر  أهم الدول المساهمة في كذبة محاربة الإرهاب. هذا مع العلم أن نحو 99% من سكانها هم من المسلمين، وهي تعدّ حصنًا ضدّ انتشار النفوذ الروسي في إفريقيا.

بالعودة بالذاكرة إلى الأحداث التي تتالت في إفريقيا، والتي تسببت بقلق غربي كبير: بداية بدأت مع تقويض الدور الفرنسي في تموز/ يوليو 2023، بعد انقلاب النيجر العسكري في ثلاث دول هي مالي وبوركينا فاسو والنيجر على التوالي، وانسحبت الدول الثلاث من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا [إيكواس] منذ 28 شباط/ فبرارير في هذا العام. ثمّ وقعت في أيلول/ سبتمبر الدول الثلاث ميثاق "ليبتاكو - غورما"، وهو عبارة عن ميثاق تحالف دفاع مشترك لدول الساحل في حال تعرضها لأي اعتداء من الدول الأخرى.

في ظلّ الأحداث العاصفة التي تحل بفلسطين، ومنذ انقلاب النيجر في منتصف العام الماضي تقريبًا، تحاول الولايات المتحدة تعزيز قوتها العسكرية في غرب إفريقيا وفي النيجر بالذات، وخاصة بعد خروج القوات الفرنسية. وتحتلّ غرب إفريقيا مكانة مهمة في الجغرافيا العالمية، وهي حلبة الصراع الجديد اليوم ما بين الولايات المتحدة وبريطانيا من جهة وما بين روسيا والصين من جهة أخرى. فالجميع يريد أن يعزز تواجده هناك، ربما لأسباب مختلفة ولكن أهمها الأسباب الاقتصادية. إذ إنّ النيجر تعدّ نقطة محورية مهمة في وسط غرب إفريقيا، وتعمل فيها حاليًّا شركة أنابيب وطنية تابعة للشركة الوطنية الصينية، ومنذ 11 شباط/ فبراير الماضي دشنت النيجر أول مشروع منجز لأنابيب النفط بطول 2000كم، وابتدأت النيجر بضخ النفط عبر الأنابيب الدولية إلى جمهورية بنين التي سيتمّ عبرها بيع نفط النيجر الخام في السوق الدولية. وفي اليوم التالي لبدء تشغيل خطوط النفط نحو بنين، دعا رئيس المجلس الوطني للدفاع عن الوطن عبد الرحمن تشياني لإصدار عملة موحدة مع بوركينا فاسو ومالي، وتوقف العمل بالفرنك الفرنسي، وقال: "لم يعد بالإمكان بقاء هذه البلدان "البقرة الحلوب" لفرنسا".

هذا ما يحدث فعليًا في النيجر، وبعد التحالف الاقتصادي الذي تسير فيه النيجر مع الصين، دعّم الانقلاب العسكري الأمن بالتعاون مع قوات فاغنر الروسية، والتي نعلم أنها باتت تابعة وبشكل مباشر لقيادة الجيش الروسي بعد الإطاحة بقائدها فيكتوروفيتش بريغوجين في حزيران/ يوليو من العام الماضي ومقتله؛ أي إن المحذور الغربي والأميركي قد وقع فعليًا، وانتقلت النيجر، الدولة الأولى المنتجة لليورانيوم في العالم والغنية بالمعادن والثروات الباطنية وخاصة الذهب والنفط، لتغرد خارج السرب الغربي وتحالفاته في أفريقيا، وأصبحت مركزًا للتحالفات الجديدة ضدّه.

ولشرح ماذا حدث مع الأميركيين منذ انقلاب النيجر في العالم الماضي؛ قامت الولايات المتحدة بتعزيز وجودها في النيجر، في محاولة لتقويض أي وجود لأي استثمارات أخرى في البلاد. ولا يستبعد أن تكون الولايات المتحدة قد عملت سرًا ضدّ الوجود الفرنسي فيها، خاصة خلال الخلاف الذي حصل ما بين #فرنسا و #أميركا، في عهد #ترامب، وأدى خروج فرنسا من ثلاث دول أفريقية دفعة واحدة إلى تقليم أظافرها وإعادتها إلى حضن الأب جو بايدن الدافئ. وابتدأ الأميركيون بتطوير قاعدتهم في الشمال، وزادوا عدد الجنود 1000 جنديّ، إضافة إلى 650 كانوا موجودين هناك. كما تدير الولايات المتحدة قاعدة لطائرات مسيّرة في شمالي النيجر.

لم يكتفوا بذلك، بل خالفوا "اتفاق التعاون" الموقّع مع النيجر في العام 2012، والذي يسمح بالتواجد العسكري الأميركي على أراضي النيجر، حين خرقوا دبلوماسيّا منطقًا من أن النيجر بلا قرار وطني. "الاتفاق" الذي يعدّه المتحدث باسم المجلس العسكري أمادو عبد الرحمن مجحفًا وغير قانوني وينتهك كلّ القواعد الدستورية والديمقراطية، فرضته الولايات المتحدة أحاديًا وعبر مذكرة شفويًا. واليوم؛ يقوم النيجيريون بطرد الجيش الأميركي من البلاد شفويًا وعبر قرار أحادي، خاصة وأن زيارة المسؤولين الأميركيين إلى نيامي جاءت مخالفة لجميع الأعراف الدبلوماسية. وهنا يمكننا أن نتذكر زيارة نانسي بيلوسي إلى تايوان مع وفد من الكونغرس الأميركي في العام 2022، والتي شكلت استفزازًا كبيرًا للصين، وكادت تشعل الحرب، ولكن منذ ذلك الوقت ونحن نشهد تقدمًا للتواجد الصيني والروسي في أفريقيا بالذات وتراجعًا للدور الأميركي، والذي قاد إلى انقلاب النيجر.

تراجع الدور الأميركي عبّر عنه كاميرون هدسون الذي عمل في وكالة المخابرات الأميركية وقسم وزارة الخارجية الأميركية في إفريقيا، وهو المدير السابق لمكتب المبعوث الأميركي الخاص إلى السودان. فقد قال إن ما جاء هو رد على الضغط الأميركي من أجل إبعاد النيجر عن روسيا. وبعد أن رفض تشياني مقابلة الوفد الأميركي في شهر رمضان، وعلى الأغلب أن الأمر مرتبط بأحداث غزّة، ألغى تشياني مؤتمرًا صحفيًا في مقر السفارة الأميركية في النيجر. صحيح أن النيجريين عادوا والتقوا الوفد الأميركي، لكن وصفت لهجتهم بالمتعالية. وكما قالت أيليز برنارد، وهي مسؤولة سابقة في الخارجية الأميركية ومتخصصة في الشؤون الإفريقية: "إن الولايات المتحدة بحاجة إلى إلقاء نظرة نقدية على كيفية ممارساتها للدبلوماسية ليس في النيجر فقط، بل في المنطقة كلها". وأهم ما أشارت إليه أن العلاقة المتدهورة في إفريقيا مرتبطة تمامًا بالسياسة الأميركية في الخليج، و"إسرائيل" وأجزاء أخرى في العالم، وجميع هذه السياسات لها تأثير كبير على العلاقات الثنائية الأميركية في غرب إفريقيا.

قادة الانقلاب ليسوا بجهلة، وعندما اتّخذ القرار الشفهي بطرد الجيش الأميركي من أفريقيا لم يكن الأمر سهلًا وهم يعلمون ما الذي يمكن أن يقدم عليه الأميركيون، ومع ذلك اتخذ القرار! وقريبًا ستتوقف عن العمل واحدة من أهم قواعد الطائرات المسيرّة في أفريقيا، والتي تستطيع أن تنفذ عملياتها خلال دقائق في ليبيا والجزائر ومالي وبوركينا فاسو والمحيط الأطلسي وحتّى في بنين التي ارتبطت، وهي من داخل تحالف ايكواس، بعلاقات تجارة النفط مع النيجر، كما قلنا. ما فعلته النيجر قسم ظهر فرنسا في إفريقيا، ربما لن يقصم ظهر الأميركيين ولكنه بالتأكيد سيقلّم الجوانح الأميركية في المنطقة. وعلى الولايات المتحدة اليوم البحث عن بدائل أخرى، خاصة وأن باقي دول إيكواس، والتي كان يجمعها النفوذ الفرنسي، ستحذو حذو رفيقتها بنين، وعلى الأغلب – مع الأسف - ستكون البدائل في المملكة المغربية أو محاولاتها الفاشلة في نواكشوط في موريتانيا.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

خبر عاجل