خاص العهد
رمضان العراق.. امتزاج الأبعاد الدينية والإنسانية والاجتماعية والسياسية
كما هو الحال في كلّ عام، اختلفت أجواء شهر رمضان المبارك في العراق عن أجواء الشهور الأخرى، من النواحي الدينية والاجتماعية والثقافية، وحتّى السياسية، لتجمع وتمزج بين العادات والتقاليد التراثية والواقعيات والظروف الراهنة، وبين الواجبات الدينية والالتزامات الاجتماعية، مع المحافظة على خصوصية هذا الشهر الفضيل، كما أن له خصوصية في الكثير من الدول المسلمة الأخرى، مع وجود المشتركات بينها جميعًا.
موسم ديني عبادي
يشكّل شهر رمضان المبارك موسمًا عباديًا متميّزًا، يتّجه فيه معظم الناس - إن لم يكن جميعهم - إلى تكريس جزء من أوقاتهم اليومية لتلاوة القرآن الكريم، إما بصورة فردية في بيوتهم، أو بصورة جماعية بحضور المجالس القرآنية في المراقد الدينية المقدسة والمساجد والحسينيات، ويحرص الكثيرون على ختم كتاب الله المجيد في هذا الشهر.
إلى جانب ذلك، الأمسيات الرمضانية التي تعقد في مختلف المراقد ودور العبادة والبيوت، تشهد قراءة دعاء الافتتاح بشكل يومي منتظم، فضلًا عن أداء الزيارات للائمة الاطهار، وكذلك أداء صلاة التراويح بالنسبة إلى بعض المذاهب الإسلامية في مساجدهم. وهذا ما يعكس طبيعة المجتمع العراقي المتنوع والمتعايش مع بعضه البعض منذ حقب طويلة، ويثبت فشل الأجندات والمشاريع التي أرادت تفكيكه وتقسيمه وشرذمته على أسس طائفية وقومية ودينية ومناطقية.
ويشهد الشهر الفضيل إحياء ليالي القدر المباركة على نطاق واسع، والتي تتخللها مناسبة مهمّة للغاية، ألا وهي ذكرى استشهاد أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب -عليه السلام - ليلة الحادي والعشرين منه، فضلًا عن ذكرى ولادة نجله الإمام الحسن المجتبى- عليه السلام- في الخامس عشر من هذا الشهر، وكذلك ذكرى وفاة السيدة خديجة زوج الرسول -صلى الله عليه وآله وسلمّ- في العاشر من رمضان، وذكرى وفاة أبي طالب والد الإمام علي، في السابع من رمضان. وهذه كلها مناسبات دينية تحظى باهتمام العراقيين بشكل كبير.
تعزيز الروابط الاجتماعية
إلى جانب الأجواء الدينية العبادية، يتجلى البعد الاجتماعي واضحًا خلال شهر رمضان المبارك بين الأسر العراقية، سواء في الجنوب أم الوسط أم الشمال، عبر الزيارات العائلية ودعوات وولائم الإفطار والتكافل الاجتماعي في مساعدة الفقراء والأيتام والمحتاجين، وتبادل أطباق الطعام بين الأقارب والأصدقاء والجيران.
وتشير مجمل المعطيات إلى أن مظاهر التواصل الاجتماعي - في العالم الحقيقي وليس الافتراضي - تزداد بنسبة كبيرة جدًّا خلال شهر رمضان المبارك بين مختلف أوساط المجتمع العراقي. وتذوب وتتلاشى، أو تتقلص مساحات الخلافات والقطيعة الاجتماعية بين الاقارب والأصدقاء والجيران، وتتوسّع ميادين تفقد الفئات الاجتماعية المحرومة، بتوزيع السلات الغذائية ووجبات الإفطار والمساعدات المالية عليها، يقوم بها المؤمنون الميسورون والمؤسسات الدينية والمنظمات المجتمعية المعنية بالجوانب الإنسانية والمشاريع الخيرية.
وقد يكون من الصعب جدًّا إحصاء أو تقدير كميات المواد الغذائية التي يجري توزيعها خلال شهر رمضان، لتعدد الجهات التي تقوم بذلك، من أفراد ومؤسسات وجمعيات وتجمعات، وأغلبها تقوم به بعيدًا عن الأضواء والترويج الإعلامي الدعائي، لأنها تبغي من وراء ذلك العمل الأجر والثواب والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى. ليس هذا فحسب؛ بل إن المرء غالبًا ما يشاهد موائد الإفطار الجماعي ممدودة لكل الناس من دون استثناء، لا سيما في المدن التي تحتضن العتبات والمراقد الدينية المقدسة، مثل النجف الأشرف وكربلاء المقدسة والكاظمية المقدسة وسامراء.
أسواق مزدهرة وأعباء اقتصادية
بما أن معدلات الطلب على المواد الغذائية المختلفة ترتفع، في شهر رمضان، ارتباطًا بارتفاع معدلات الاستهلاك، فمن الطبيعي أن تزدهر الأسواق والمحال التجارية بشتى السلع والبضائع. ومن الطبيعي أن يطرأ تغير على الأسعار قد يثقل كاهل المواطن العادي، ولعلّ هذه الظاهرة السلبية "الاستغلالية" لا تقتصر على مدينة دون أخرى، ولا على بلد دون آخر.
وقد أسهمت بعض الإجراءات الحكومية للجهات العراقية المسؤولة في كبح جماح الأسعار، والحد من جشع واستغلال بعض التجار. ومن بين تلك الإجراءات: تعزيز الرقابة والمتابعة الميدانية لحركة الأسواق ومحاسبة من يرفعها بشكل غير اعتيادي، وتوزيع الحصص الشهرية من المواد الغذائية وفقًا لنظام البطاقة التموينية في بداية شهر رمضان، فضلًا عن توزيع حصة رمضانية إضافية، وكذلك فتح منافذ لبيع بعض المواد الغذائية الأساسية – مثل البيض واللحم - بأسعار مدعومة من الدولة. إضافة إلى ذلك، كان لحملات التثقيف والتوجيه التي تضطلع بها المرجعيات الدينية وعلماء الدين والنخب الاجتماعية حول أهمية مراعاة الابعاد الدينية والإنسانية لشهر رمضان، دور واضح في تقليل مظاهر الاستغلال والجشع وتعزيز مظاهر التكافل والدعم. ويرى الكثيرون أن مستويات أسعار الأسواق في شهر رمضان الحالي، أفضل منها بالنسبة إلى المواطن مقارنة بالاعوام الماضية.
رسائل سياسية
لا تخلو أجواء شهر رمضان المبارك في العراق من الحراك السياسي المتداخل مع الطقوس الدينية والاجتماعية. ففي أمسيات هذا الشهر، يتبادل أغلب السياسيين الزيارات في ما بينهم، وممّا لا شك فيه أن النقاشات والحوارات التي تتخللها هذه الزيارات تتمحور حول أبرز القضايا والملفات السياسية، في إطار السعي إلى استثمار الأجواء الروحانية للشهر الكريم من أجل حلحلة الأزمات والمشاكل السياسية وتقريب وجهات النظر، واحتواء الخلافات بين الشركاء.
إلى جانب ذلك، بعض الساسة يحرصون على إقامة ولائم الإفطار لبعض النخب والفئات الاجتماعية، مثل وجهاء العشائر وشيوخها، والاعلاميين ووذوي الاحتياجات الخاصة والكوادر الوظيفية، حيث تشهد تلك الولائم إقامة الندوات الحوارية، وإلقاء الكلمات التي تتناول مجمل الأوضاع العامة في البلد، وإطلاق الرسائل السياسية حيال مجريات الوقائع والأحداث. كذلك؛ هناك أمسيات رمضانية تتضمن تلاوة القرآن الكريم والأدعية والزيارات مع إلقاء المحاضرات الوعظية - السياسية.
من جانب آخر، مجمل القنوات الفضائية العراقية، ومعها منصات التواصل الاجتماعي على كثرتها وتنوعها، تحفل بالبرامج الدينية والبرامج السياسية أيضًا، إلى جانب البرامج الترفيهية والأعمال التلفزيونية الدرامية التي أحدث بعضها جدلًا ولغطًا واسعًا بسبب ما انطوت عليه من مسائل سياسية ودينية، رأى بعضهم أنها تشكّل مساسًا وانتهاكًا للعقائد والثوابت.
في كلّ الاحوال، لقد طغت وهيمنت المساحات الإيجابية على المساحات السلبية إلى حد كبير، في عموم المشهد الرمضاني في العراق هذا العام.