آراء وتحليلات
قصة الرفات والأدمغة البشرية في المتاحف الأميركية (1)
ليس من قبيل المبالغة القول إن ما نعرفه عن الماضي المظلم للولايات المتحدة الأميركية، ما هو إلا سطر واحد في سجلها الدموي الحافل بالمجازر والغزوات والاحتلالات وأعمال الإبادة كما حصل مع سكانها الأصليين، ثمّ السود، والقائمة تطول.
لكن ما خفي أعظم. وهذا ما سنحاول كشفه والإضاءة عليه في سلسلة توثيقية تتناول قصّة متحف سميثسونيان الوطني للتاريخ الطبيعي (الذي يحتوي على أكثر من 30700 مجموعة من الرفات البشرية) والنقاش الدائر في أميركا حول هذه القضية المروعة.
ما قصّة هذا المتحف؟
في الآونة الأخيرة، اندلع جدل كبير داخل الولايات المتحدة، بشأن إعادة رفات عشرات الآلاف من الأفراد - كانت أخذتهم مؤسسة سميثسونيان دون موافقة أصحابها أو أهاليهم - إلى عائلاتهم ومجتمعاتهم، بحسب فريق العمل الذي أنشأته المؤسسة التي تعرف أيضًا باسم مجمع المتاحف المشهور عالميًّا.
تم تجميع الرفات البشرية لهؤلاء الاشخاص من المقابر وساحات القتال والمشارح والمستشفيات من أكثر من 80 دولة، أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وأوائل القرن العشرين. ما يثير الصدمة، أن المجموعة تتضمن 254 دماغًا بشريًا موجودة في منشأة تخزين في ضواحي ماريلاند، معظمها مأخوذ من أشخاص ملونين لتعزيز تفوق العرق الأبيض.
ومع أن مؤسسة سميثسونيان مُكلفة بموجب قانون اتحادي صدر عام 1989، ونص على إعادة رفات الأميركيين الأصليين، وسكان هاواي الأصليين، وسكان ألاسكا الأصليين، إلى أحفادهم ومجتمعاتهم، فإن التشريع لم يتطرّق إلى جميع الرفات الأخرى، مما ترك الآلاف من أجزاء الجسم في طي النسيان.
وتبعًا لذلك اقترحت فرقة العمل أن يقوم متحف التاريخ الطبيعي بإنشاء طاقم عمل جديد يكون مسؤولًا عن إعادة البقايا التي لا يغطيها القانون الفيدرالي. وأوصت أيضًا بتسهيل عملية إعادة رفات الأميركيين الأصليين، وتوفير تمويل إضافي لهذه الجهود.
أما السبب، فيعود إلى أن المتحف كان فشل في إعادة الغالبية العظمى من الرفات البشرية التي كانت بحوزته. ولهذا تعتزم العائلات والمجتمعات التي تنتمي إليها هذه الرفات، تقديم التماس رسمي لإعادتها، على الرغم من أن الكثيرين لم يكن لديهم أي فكرة عن وجود أقارب لهم كبقايا في المتحف.
والأسوأ، وفقًا للتقرير الجديد الذي أصدرته فرقة العمل في اعقاب تشكيلها، أن حوالي نصف الأفراد الذين لا تزال بقاياهم مخزنة لدى سميثسونيان هم من الأميركيين الأصليين، و2100 من الأميركيين من أصل إفريقي. كما تمت تسمية حوالي 6000 من الأفراد، "إما بالكامل أو جزئيًا أو بالأحرف الأولى من أسمائهم".
اشارة إلى أن فريق العمل - المؤلف من مسؤولين بمؤسسة سميثسونيان وخبراء خارجيين - كان وصف هذه المجموعة من الرفات، بأنها "ميراث مؤسف، وإرث عنصري يثقل كاهل المؤسسة ويطيل أمد هذا الظلم".
الأكثر أهمية أن فرقة العمل اعترفت بأن الهدف الأصلي من جمع هذه الرفات البشرية مقيت من الناحية الأخلاقية، لأنه سعى إلى إثبات تفوق البيض وأحفادهم على الأميركيين الأصليين، والأميركيين من أصل إفريقي، وغيرهم من خلال الوسائل العلمية التي فقدت مصداقيتها تمامًا الآن.
من هو المسؤول عن تجميع هذه الرفات البشرية؟
يرتبط القسم الأكبر من هذا الإرث المروع بالعالِم أليس هردليكا، الذي قاد قسم الأنثروبولوجيا الفيزيائية في المتحف الوطني الأميركي الذي تحول لاحقًا إلى متحف التاريخ الطبيعي. فخلال معظم النصف الأول من القرن العشرين، آمن هردليكا بتفوق البيض، لذلك عمد إلى استغلال السكان المحرومين لجمع الرفات بهدف مقارنة الأجناس وإثبات نظريته العنصرية.
ما يثير الغثيان، هو أن هردليكا عمد إلى انتزاع الأدمغة البشرية وأجزاء الجسم الأخرى، إلى حد أنه من بين أكثر من 280 دماغًا جمعها وحده، وكانت المؤسسة تحتفظ بها، أعادت الأخيرة خمسة فقط، إلى عائلاتهم أو مجتمعاتهم التي ينحدرون منها.
وكانت المتاحف والجامعات في جميع أنحاء الولايات المتحدة، عمدت في السنوات القليلة الماضية، إلى القيام بإحصاء لآلاف من بقايا الأميركيين الأصليين – التي جمعهم هردليكا - في مجموعاتها، والتي أجبرتها القوانين الفيدرالية على معالجتها في التسعينيات من القرن الماضي، بعد سنوات من جهود مجتمعات السكان الأصليين لإعادتها إليها.
من هنا، واعتبارًا من كانون الأول/ديسمبر الماضي، كان مسؤولو المتحف قد أعادوا أو عرضوا إعادة أكثر من 6300 مجموعة من الرفات البشرية، غالبيتها العظمى تعود إلى الأميركيين الأصليين، وفقًا لما يقتضيه القانون الفيدرالي.
علاوة على ذلك، تواصلت مؤسسة سميثسونيان مع الفيلبين لمناقشة إعادة رفات الفيلبينيين ضمن المجموعة. وبالمثل أعاد متحف التاريخ الطبيعي دماغ ماري سارة، امرأة من شعب ألاسكا، إلى أقاربها في آب/أغسطس الماضي، بعد أن أبلغتهم صحيفة ذا بوست الأميركية أن المتحف يحتفظ ببقاياها. وفي الشهر ذاته، دفنت الأسرة دماغها، الذي كانت المؤسسة استخرجته من قبرها بعد وفاتها بمرض السل عام 1933.
وتعقيبًا على ذلك قالت راشيل تويتشل جوستيس، قريبة ماري سارة، إنها تعتقد أن "الكلام رخيص" وتريد أن ترى المؤسسة تتابع التوصيات. وأضافت "آمل أن يفعلوا كلّ ما يفعلونه بأقصى قدر من الاحترام".
ماذا عن الأدمغة البشرية المحفوظة في المتحف؟
وجد تحقيق صحفي أميركي من ضمن القائمين به الواشنطن بوست، أيضًا، أن 74 من الأدمغة التي جمعها المتحف - أكثر من ربع مجموعة الأدمغة - جاءت من منطقة العاصمة، بما في ذلك 48 دماغًا مأخوذة من أميركيين من أصل إفريقي.
كان أحد هؤلاء الأفراد طفلًا أسود يدعى موسى بون، يبلغ من العمر 21 شهرًا، وتوفي بسبب مرض السل في مستشفى الأطفال عام 1904. ولم تكن ميشيل فاريس، وهي قريبة لبون، على علم بأن دماغ أحد أفراد عائلتها كان محتجزًا لدى مؤسسة سميثسونيان حتّى أبلغتها المؤسسة بذلك.
وتبعًا لذلك، تواصل مسؤولو متحف التاريخ الطبيعي مؤخرًا مع فارس للاعتذار، حيث أكدت أنها ستبدأ قريبًا عملية طلب إعادة الدماغ إلى العائلة، وتخطط لدفنه إلى جانب بقايا الطفل.
وعلى المنوال ذاته، دعت مجتمعات محلية أخرى أيضًا، مؤسسة سميثسونيان إلى إعادة الرفات أيضًا. ففي كانون الثاني/يناير الماضي، قدم النائب الأميركي إريك زهر، مشروع قانون إلى مجلس مندوبي فرجينيا يطالب مؤسسة سميثسونيان بإعادة جميع بقاياها في فرجينيا إلى أحفادها، وتعويض العائلات والقبائل عن نفقات الجنازة والدفن. وبينما لم يتم إقرار مشروع القانون، قال أحد موظفي زهر إنه قد يعيد تقديمه ويسعى للحصول على دعم الكونجرس.
في المحصلة، ما تجدر معرفته هنا، أن المتحف يتلقى حوالي ثلثي تمويله من الكونغرس الأميركي، وهذا يعني أن هذا الفعل الذي قام به عالِم الأنثروبولوجيا أليس هردليكا، جرى تحت أنظار السلطات الرسمية الأميركية التي شرعت أعماله العنصرية، وتواطأت معه لتغذية هذه الآفة في بلد لا يزال الأشخاص الملونون يعانون فيه من التمييز حتّى الاضطهاد إلى يومنا هذا.
في الحلقة المقبلة: كيف افترس عالِم الأنثروبولوجيا الأميركي أليس هردليكا، السكان الأصليين، وقطع رؤوسهم بهدف إثبات نظريته؟