آراء وتحليلات
من طهران إلى فلسطين.. الصورة الكاملة
لا تبدو محاولة العودة إلى لحظة انطلاق الصراع الحالي في فلسطين، الآن، عودة إلى الماضي، قدر ما تمثل فهمًا للحظة مفصلية ستقرر مصير هذه المنطقة وشعوبها ودولها لسنوات -وربما لعصور- عديدة قادمة. كلمة البداية قد انطلقت من سماحة القائد الإمام علي الخامنئي، مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ومن منبر خطبة أول أيام عيد الفطر، وتمامًا كما كان يليق بسماحته، رسالة بليغة وموجزة وقاطعة، "الكــيان الخبيث أخطأَ، وعليه أن يُعاقَب وسيُعاقَب"ـ
إذًا هي الحرب، التي كان الكل يتهرب أو يتحسب من لحظة تمددها. ثلاثة أطراف يملكون خيوط الحركة في منطقة الشرق الأوسط، الشيطان الأكبر الأميركي لم يكن يريد توسع الصراع لأن مصالحه عديدة وكثيرة ومكشوفة، وهي عارية ستطولها الشظايا المدمرة إن تلاقى البارود الجاهز مع النار، ثمّ الكيان وهو كان يركز جل جهده على حصار الصراع في جبهة واحدة -غزّة -كي لا تطول خطوط القتال بأكثر من طاقته على الاستيعاب وقدرة أعصابه على التحمل، ثمّ أنظمة عربية رسمية هوت إلى الدرك الأسفل من الإجرام باندفاع حماسي، ومارست فاحشة التطبيع سرًّا أو جهرًا، وهي تجاهد لأنها تؤمن أن زوال الهيمنة الأميركية، أو حتّى تبدّي ارتعاش قبضتها، سيكون نهايتها قبل أن تكون نهاية الكيان.
إذًا هي الحرب، وقد أشعلتها اليد الأثيمة للكيان المجرم باستهداف أحمق للقنصلية الإيرانية في سورية. ويأتي وعد الرد الإيراني حتمًا، اليوم أو غدًا، لم يعد يفرق في مسيرة المنطقة المندفعة كلها إلى مواجهة شاملة وعميقة، بين صفوة أو ثلة قليلة العدد كبيرة الكرامة والعزة، وبين طاغوت اسمه الشيطان الأكبر، والمواجهة الواقعة منذ يوم السابع من تشرين الأول 2023 المبارك هي معركة بين حق مطلق وشر كامل، لا بين حقوق متصارعة، هي معركة إرادة ومعركة ضمير ومعركة إيمان، والأميركي يتمنى طردنا من التاريخ ونفينا من الوجود، ولو استطاع لفعل مهما كانت تكاليفه ومهما طال مداه، لكنّه يحاول أن يعترض مسيرة هذه الأمة كلها، وتعطيل حركتها، وتغيير وجهتها، وهو في ذلك شأن أي مستعمر أو مغتصب آخر، عجز عن امتلاك سيطرة كاملة، فيحاول أن يستبدل النفي والطرد بمسخ الصراع والقضية المركزية فيه -التحرر- إلى فراغ وإلى ضياع.
سماحة القائد، وهو يؤدي دور المرشد لضمير هذه الأمة في لحظات عصيبة ومهيبة وأمام تطوّرات جسام، اختار أن يطل علينا كما اعتدناه واثقًا باسمًا هادئًا، وبخطاب جمع مزيج التصميم والعلو، كما ألفنا سماحته، ارتكز على بندقية الحق، ومزق بحكمة أوهام وظنون العدوّ أن طهران ربما تبتلع الضربة. أطل سماحة القائد فمنحنا فسحة مع شخصية المجاهد كما ينبغي أن تقدم، بكلّ ما فيها من قيم مطلقة لا شائبة فيها ولا لبس، أطل ومعه نبل المنطق، وعظمة الموقف، وشمولية وذكاء الرؤية الاستراتيجية، وتكلم بروحية مقاتل تحت ضغوط مسؤولية إيمانية ثقيلة وكبيرة، يضاعفها انتظار بعض الأبواق وكثير من المنافقين فرصة للهجوم أو الوقيعة، أو كليهما.
وزاد من بهاء خطاب القائد ترفعه المتكرّر عن صغائر الأحداث، منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى المباركة، وإلى اليوم الأول من عيد الفطر، فإن القائد يشدد ويسهب في كلّ لقاء أو كلمة على مركزية قضية فلسطين لهذه الأمة، ويركز على الدور البطولي للمقاومة الفلسطينية وصمود شعبها الباسل، ويكرّر بالحرف والإشارة أن ما يقدمه محور المقاومة في إطار دورها الأصيل ضمن الصراع ليس منحة ولا منة، وإنما هو دور المسؤولية الشرعية الواجبة على كلّ مسلم، بل على كلّ إنسان، ولعل هذه التفصيلة بالذات تكون ذات أهمية قصوى في مسألة ماذا كسب العالم العربي من الثورة الإسلامية العظيمة، بنقلها هذا البلد بوزنه وحضارته وأهله إلى الخندق العربي وإلى موارد القوّة العربية الهائلة.
السؤال الأول اليوم يجب أن يكون سؤال "ماذا بعد الضربة؟"، إنه الانتقال المحتوم من صراع محدود يجري التفاوض تحت سقف ضوابطه وخطوطه، للوصول إلى هدنة إنسانية أو تبادل أسرى وما شابه، إلى مفتتح فصل جديد من تاريخ المنطقة كلها، وفي القلب منها قضية فلسطين. ليس بعد الضربة كما كان قبلها، اليوم لا يستطيع الصهيوني أن يعيش آمنًا مطمئنًا إلى درع حماية أميركية لا أفق له، ولا أن يستند في استمراره إلى مدد لا ينقطع، وإنما تحول هو الآخر إلى كيان محاط بالشك والكراهية والاحتقار، وكلّ ما بناه عن صورته الذهنية، وقدراته العجائبية على ضرب عدوه أينما كان ووقتما يريد قد انتهى، وأن زمن مجازر دير ياسين وبحر البقر قد ولى إلى غير رجعة، وأن زمن الحساب قد بدأ.
مهما كانت الضربة الإيرانية التي ستحدث، قطعًا، فإنها ستكون الرصاصة الأولى التي يتلقاها الكيان في قلبه، الفاجعة الصادمة كما يحبون تسمية عملياتهم ضدنا، هي أولى خطوات كتابة تاريخ جديد، يكون فيه الضمير الجمعي للأمة انعكاسًا لهذا التاريخ، وتكون فيه الحركة العامة المنطقية للأمام، بدفع من ضمير يقظ، يحفز الأعصاب والخلايا، ويكون بداية لأمل الخلاص من كابوس السيطرة الغربية بجملته.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
29/11/2024