آراء وتحليلات
الردّ الإيراني الموجع "بروفة أولية" للحرب الأوسع
منذ لحظة الإعلان عن التوحش الإسرائيلي عبر العدوان الذي استهدف مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق، كانت حتمية الرد الإيراني واضحة لكل من يود قراءة الواقع على حقيقته. وتبلور لاحقًا بأنّ الرد الإيراني سيجعل الكيان الإسرائيلي يندم على فعلته النكراء وجريمته التي ارتكبها، مضيفًا بذلك إثباتًا جديدًا إلى سجله التاريخي المتخم بالإرهاب والإجرام والضرب عرض الحائط بكلّ ما له علاقة بالقانون الدولي وأعراف المجتمع الإنساني وقيمه المرعية. والمتابع المهتم للداخل الإسرائيلي يدرك بأن قادة "تل أبيب"، مدنيين وعسكريين، تابعوا بقلق واضطراب تداعيات استهداف مبنى القنصلية الإيرانية. وسرعان ما تحول القلق إلى حالٍ من الذعر والهلع عند جموع المستوطنين من الباب الذي فُتح على المجهول بعد أن اتّخذ القرار، وأعلن آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي أن العقاب سيطال الكيان، وسيندم المسؤولون الصهاينة على جنونهم وجريمتهم، ويتمنون لو أنهم فكروا بالعواقب والتداعيات قبل الإقدام على الشروع بالانتحار.
سرعان ما أعطيت التعليمات في الكيان بالتزام الجميع البقاء قريبًا من الأماكن المحصنة، وأغلقت المدارس والدوائر الحكومية أبوابها إلا للضروري والملح من الأمور، ونفدت المواد التموينية من المحلات التجارية والأسواق، ولم تُجْدِ نفعًا كلّ تهديدات إدارة بايدن والتحذيرات التي صدرت مباشرة ومداورة من المسؤولين الأميركيين والأطلسيين وإعلان التزامهم التام بأمن الكيان المؤقت والوقوف إلى جانبه ومشاركته بامتصاص ردّ الفعل الإيراني الذي فاق تصور أولئك جميعًا، وأثبت أن قصر النظر وفقدان البصيرة سيقودان عاجلًا أو آجلًا إلى نهاية حتمية تقترب بتسارعات كبيرة لكل ما له علاقة بالهيبة والنفوذ الأميركي في المنطقة.
ويمكن، بتكثيف شديد، الإشارة إلى عدد من الأفكار التي تساعد في فهم ما حدث على حقيقته، واستشراف آفاق الأيام والأسابيع القادمة على أقل تقدير، ومنها:
• امتصاص طهران لضربة الغدر والجريمة المروعة، وتعاملها المتزن والمحكوم برباطة الجأش، وعدم السماح لردود الأفعال الآنية بالتأثير على السلوك الإيراني الذي ينظر إلى الشكل الأمثل المطلوب للسجادة العجمية الفاخرة، منذ بداية نسج الخيوط الأولى، وحتّى لحظة جاهزيتها للعرض بأبهى حلة لتبقى صالحة للاستخدام أطول مدة ممكنة.
• التعامل بما يليق وعظمة الشهداء الذين ارتقوا بفعل الإجرام الصهيوني، وتشييعهم بما يليق بهم وبالجمهورية الإسلامية الإيرانية، والابتعاد عن لغة التهديد التقليدية الممجوجة باستخدام خطاب حاسم وحازم، ولا يقبل التأويل ولا المساومة تحت أي عنوان كان، وتتويج كلّ ذلك بقرن الأقوال بالأفعال.
• وضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته وفقًا للنظام الرسمي الذي يحكم عمل هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن وبقية المؤسسات الرسمية التابعة للمنظمة الدولية، انطلاقًا من أن الهدف الأول والأسمى يتجسد في الحفاظ على الأمن والاستقرار الدوليين، وهذا يفسر استناد الرد الإيراني إلى مضمون المادّة "51" من ميثاق المنظمة الدولية التي تبيح لأي دولة الدفاع عن سيادتها وكرامتها ومقومات وجودها وحقها في الرد المشروع على أي عدوان تتعرض له.
• التعطيل الأميركي المتعمد لقدرة مجلس الأمن على إصدار، ولو بيان، يوصّف الإجرام الإسرائيلي المرتكب على الأقل، الأمر الذي وسّع هامش التحرك الإيراني لتحرير مجلس الأمن من الاختطاف القسري الذي تفرضه واشنطن، أي إن الانتقام الإيراني من الكيان الإسرائيلي هو انتصار لمجلس الأمن والمنظمة الدولية، كما أنه حق مشرّع في الرد على الجريمة الموصوفة ومكتملة الأركان، حيث لا يستطيع أي طرف أن يجد مسوّغًا قانونيًا يبيح لـ"تل أبيب" أو غيرها قصف القنصليات والمباني الدبلوماسية في أي مكان من العالم.
• انتظار أكثر من عشرة أيام لزيادة التوّتر والقلق، في داخل الكيان الإسرائيلي، وترك غطاء سلة المهملات مفتوحًا لإلقاء كلّ ما يرد من تهديدات وتحذيرات وتهويل وإغراء في آن، والتشديد على أن الرد قادم وهو مؤلم ومدروس بدقة متناهية، تسحب من أيدي "تل أبيب" وواشنطن وأتباعهما أي ذرائع يقبلها العقل بهدف الهروب إلى الأمام أو التغطية على أهمية الرد وتداعياته التي ما تزال في بواكيرها الأولى. ولعل الأهم من التداعيات يتأخر ظهورها إلى حين، لكنّها ستبدو جلية واضحة لكل من لديه بصيرة وبصر، ولا تتحمّل طهران مسؤولية من فقد نعمة البصيرة والعقل.
• الإعلان رسميًا من الجانب الإيراني عن بدء ساعة الصفر مع انطلاق الموجة الأولى من الطائرات الإيرانية باتّجاه عمق الكيان الإسرائيلي، وهذا الأمر بحد ذاته لا يقل أهمية عن الرد بكليته، وهنا يمكن تسجيل النقاط الآتية:
1 - التخلي الطوعي الإيراني عن عنصر المفاجأة يعني ذروة التحدّي للكيان المؤقت وداعمه الأميركي، وكلّ من تموضع في الاصطفاف لمنع وصول الصواريخ الإيرانية التي وصل ما خطط له أن يصل إلى الأهداف المحدّدة والمحملة على الرؤوس المتفجرة التي طالت المركزين الأساسيين للعدوان على القنصلية الإيرانية، وهما، المركز الاستخباراتي والاستطلاعي في الجولان السوري المحتل، وقاعدة "نيفاتيم" التي انطلقت منها طائرات "إف 35" للاعتداء على القنصلية الإيرانية في دمشق- هذه القاعدة تعد أهم القواعد الجوية الإسرائيلية، وأكثر الأماكن تحصينًا ضدّ الأخطار والتهديدات الخارجية- وكلّ ذلك لم يستطع منع وصول صواريخ الإرادة الإيرانية.
2 - تنسيق توقيت إطلاق الطائرات المسيّرة بأنواعها والصواريخ المتعددة بما يتناسب والسرعة التي يتمتع بها كلّ سلاح مستخدم، وبما يضمن قطع مسافة تزيد عن /1100كم/ ودخول أجواء الكيان الغاصب في توقيت متقارب مسبوق بهجمة سيبرانية حيَّدت قسم لا يستهان به من أجهزة الرصد والتعقب والمتابعة. وتكفلت الموجات الأولى من الطائرات المسيّرة بأنواعها المتعددة بإشغال منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلي بطبقاته المتعددة. وكذلك الأمر في ما يتعلق بمنظومات الدفاع الجوي الأميركية والبريطانية والفرنسية وغيرها من التي شاركت في التصدي للهجوم الإيراني المتقن والناجح بتحقيق كلّ ــ وليس بعض ـــ الأهداف التي وضعها الفكر العسكري الاستراتيجي الإيراني، وواهم من يظن أن إيران لا تستطيع تدمير أي هدف داخل الكيان، بل وعلى امتداد المنطقة، لكن لكل أجلٍ كتاب.
3 - رد الفعل الإيراني على محدوديته ــــ وفقًا لما صرح به الجنرالات الإيرانيون ــــ فعل يرقى إلى الإنجاز العسكري غير المسبوق. وهذا ليس تعاطفًا مع الأشقاء الإيرانيين، بل قول للحقيقة التي جاءت أكثر ساطعةً على لسان عاموس يدلين رئيس شعبة الاستخبارات السابق الذي أكد أن: "الهجوم الإيراني لا مثيل له في أي حرب في القرن العشرين... حتّى الروس خلال سنتين لم ينجحوا في إطلاق صلية كهذه في أوكرانيا"، وأضاف: "اليوم يجب أن يكون لدينا ما هو موجود بشكل عام عند الإيرانيين، وهو الصبر الاستراتيجي".
4 - القسم الأكبر من التصدي للمسيّرات والصواريخ الإيرانية تمّ قبل الوصول إلى أجواء الكيان المحتل، ومن الأجواء الأردنية على وجه الخصوص، وهذا الأمر يستحق دراسة تحليلية مستقلة، لكن باختصار يمكن القول: يدرك القادة العسكريون الإيرانيون أنه سيجري بذل كلّ جهد ممكن لمنع وصول الصواريخ الإيرانية إلى أهدافها، ويعلمون مسبقًا علم اليقين من هي الأطراف الإقليمية والدولية التي ساعدت وستساعد "تل أبيب"، ومع ذلك قام الإيرانيون بالرد على العدوان، فلماذا؟
5 - الجواب عن التساؤل السابق المشروع، وبتكثيف شديد، يتضمن الانطلاق من حقيقة أن هذا الرد الذي أرعب الكيان وداعميه ما هو إلا "بروفة أولية" وليس "بروفة جنرال" لسيناريو "الحرب الأشمل والأكبر" القادمة لا محالة. وتقديري الشخصي أن القادة العسكريين الإيرانيين، اليوم، أعدوا وجهزوا خريطة متكاملة العناصر لنقاط القوّة والضعف، ومواضع الوهن التي اكتشفت، وكذلك المحتملة، وإذا تجرأت حكومة نتنياهو على الرد على الرد الإيراني، فسيرى العالم بكليته كم هي بسيطة "البروفة الأولية" التي نفذتها إيران في الساعات الأولى من تاريخ 14/4/2024م. بالمقارنة مع "بروفة جنرال" التي لا تمنح العدوّ وداعميه هامشًا للمناورة بالوقت، ولا قدرة التعامل مع عملية إغراق ناري كفيلًا بتحييد القسم الأعظم من أحدث منظومات الدفاع الجوي على المستوى العالمي.
خلاصة مكثفة:
الكيان الإسرائيلي مرغم على ابتلاع مرارة الصفعة في الرد الأولي الإيراني لأكثر من سبب جوهري، وما ينفذه رجال المقاومة الإسلامية في لبنان على امتداد الجبهة يوميًا، من رأس الناقورة إلى سفوح جبل الشيخ، يضع أمام مفاصل صنع القرار الإسرائيلي صورة تقريبية عن معالم اللوحة الكلية المحتملة. فالكيان بكلّ ما لديه عاجز عن التعامل مع ما يسطره حزب الله وحيدًا في الميدان.
ولعل عملية حزب الله ضدّ مقر قيادة سرية الاستطلاع المستحدث، في "عرب العرامشة"، تعني الكثير للمهتمين بالشأن الميداني، وأمام نتنياهو تاليًا أحد سيناريوين؛ كلّ منهما أسوأ من الآخر، فإما أن يتعامل بالتعايش مع الواقع الجديد الذي فرضه الرد الإيراني، وهذا يعني تسارع التأكل في ما تبقى من هيبة وقوة ردع لـ"تل أبيب"، وإما أن يرد وفقًا لأكثر من سيناريو. كأن يكون الرد شكليًا، ومع ذلك سيولد ردًا إيرانيًا لا يمكن التنبؤ بنتائجه، وعندها يستمتع المشاهدون بمتابعة فصول "بروفة جنرال" الإيرانية، أو يكون الرد جنونيًا وعندها يرى العالم ماذا يعني مبدأ وحدة الساحات وتكامل الجبهات، وسواء وقفت واشنطن مع "تل أبيب" في كلا الحالين، أو حاولت التواري وعدم الإعلان عن المشاركة ـــ وإن شاركت ـــ فالنتيجة النهائية عندئذ تشير إلى أن الكيان المؤقت بكليته قد نقل فوهة المسدس من التصويب على أقدامه إلى التصويب على رأسه، وعظم الله أجور كلّ من أسهم في تهيئة البيئة الأنسب لتنفيذ ذلك.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
29/11/2024