نصر من الله

آراء وتحليلات

الحرب ووهم السلام (1)
29/04/2024

الحرب ووهم السلام (1)

هذا العنوان مستوحى بالطبع من أحد أشهر الأعمال الأدبية في التاريخ الإنساني، ودرة تاج الأدب الروسي المدهشة، رواية الأديب ليو تولستوي، والتي تعدّ واحدًا من أهم النتاجات الأدبية، وأهم الدلائل على أنّ المفكرين وإن لم يكونوا قادة أممهم، فهم بالتأكيد الأقدر على حفظ ذاكرتها وصيانتها. وهي قبل أي شيء آخر بالتضاد بين كلمتي عنوانها، قد منحت القصّة كلها جمالًا منذ اللحظة الأولى، فالتضاد أسلوب جمالي في اللغة العربية، يؤكد المعنى ويثّبته، وهو يجعل الكلمات شفافة والأوصاف حاضرة في الذهن، حية تتحرك.

هذا التضاد لا ينعكس فقط على العنوان أو الموقف، لكنّه يمتد عند تولستوي إلى أبعد من ذلك، فالشخصيات في الرواية تتفاعل وتتأثر وتختار جانبها في الصراعات وفقًا لمبادئها وأفكارها أو لمصالحها. وهذا ما يجعل الفكرة حاضرة بقوة في الوجدان العربي، أو على الأقل مرئية. فمنذ إطلاق المقاومة الفلسطينية عملية "طوفان الأقصى" المباركة، انقسم العالم العربي كما لم ينقسم في تاريخه، بين ثلة شريفة قليلة اختارت طريق الفداء/الحرب بإرادتها الحرة وبوازع من إيمان يتطلب الكرامة والتضحية، وبين غالبية اختارت مجبرة أو حرة أن تظل في ركاب القاعدين، اختارت ما تظن واهمة أنه السلام، ولبئس ما هم ولبئس ما فعلوا.

لو كانت الشخصيات الرئيسة، في الرواية العربية، دولًا وشعوبًا، فهي لن تخرج بالتأكيد عن اليمن والسعودية ومصر، بكلّ التناقض الصارخ المبدئي في الخيار التاريخي، ثمّ القدرة على الفعل، ثمّ القدرة على تحمّل تبعات طريقه وعواقبه، وهي تقف في خندقين مختلفين. اليمن العزيز كان من البداية في صف الحق، وتحت راية الهدى، بينما بن سلمان والسيسي كانا تحت راية الضلال.

يمن الحكمة والإيمان كان على موعد مع القدر، فور وقوع معركة "طوفان الأقصى". من أبعد نقطة في المستحيل استطاع اليمن بقيادة ذكية وشعب واعٍ أن يقهر حدود الجغرافيا الحاكمة، وأن يلغي المسافات الطويلة المرهقة، وأن يتحول إلى أول جنود معركة التحرير، بل وفاجأ الصديق قبل العدوّ برفعه سقف تدخله بالتزامن مع رفع وتيرة العدوان الصهيو - أميركي على شعبنا الفلسطيني الصامد في غزّة، فمن استهدافات صاروخية إلى أم الرشراش والداخل المحتل، إلى تطويق ومنع التجارة البحرية عن كيان العدو، وأخيرًا إلى فرض "حصار بحري" كامل على قوى العدوان والاستكبار.

خطوات اليمن قابلها بالطبع انخراط أميركي أكبر في العدوان الجديد عليه، لكن البلد الذي امتلك جرأة القرار وبروحية عالية، حوّل التهديد الأميركي إلى فرصة لمسح المنطقة بدمائهم. وشهدنا، مع بداية شهر تشرين الثاني/اكتوبر، استهدافًا عسكريًا لأهداف أميركية من طرف عربي، في سابقة هي الأولى من نوعها، وشهدنا أيضًا انسحابًا أميركيًا تحت النار، خلال الأسبوع الحالي، بإعلان سحب حاملة الطائرات الأميركية "دوايت أيزنهاور" من البحر الأحمر، أمام استمرار وتعميق الاشتباكات اليمنية، والكفاءة المذهلة التي تؤدي بها القوات المسلحة اليمنية عملياتها، وتنفذ بها توجيهات السيد عبد الملك الحوثي.

لن تكون الكتابة عن اليمن عقلانية، بالذات في هذه الأيام، فكلمة اليمن صارت تدفع الدم فوارًا بالفخر إلى العقل والقلب، الطرف الذي كان مفاجأة المحور الاستراتيجية الكبرى للحرب، كان عند كلّ حسن ظن به وبموقفه وبأدائه، البلد الخارج من عدوان أميركي همجي لمدة 7 سنوات كاملة، كان رأس حربة الهجوم المضاد على الكيان وعلى من يدعم الكيان، وخيارات واشنطن في مواجهته بالأصل قليلة، فهي تعلم جيدًا أن مزيدًا من استثارة هذا العملاق الخارج لدور إقليمي لن تفتح عليهم وعلى حلفائهم في مدن الخليج الزجاجية سوى الجحيم ذاته.

من الصعب تصور أن عالم ما بعد "طوفان الأقصى" سيكون عالمًا لا يكون فيه اليمن لاعبًا أساسيًا ورئيسًا في صناعته وإخراجه وبطولته. فالقاعدة الذهبية هي أن من يدفع أثمان الحرب يستحق ثمار النصر، والعمليات العسكرية البطولية اليمنية في البحرين الأحمر والعربي وخليج عدن وصولًا إلى المحيط الهندي، سترسم تصورًا لحدود الدور اليمني الجديد، في عصر ما بعد الهيمنة الأميركية العاجزة المتداعية.

على الضفّة الأخرى؛ يقف رجل عاريًا، أراد منذ سنوات أن يكون الرجل القوي في الشرق الأوسط، 9 سنوات فقط كانت كفيلة ليس بإسقاط حلم محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، وإنما بحرقه ومشروعه معه. والصدفة التاريخية البحتة جعلت من اليمن أول مسمار في نعشه، فالأمير الطائش أراد أن يحقق انتصارًا مهيبًا وسريعًا وحاسمًا، على عدو كبير، فور انطلاق عدوان "عاصفة الحزم" كان المختل وسط جنرالاته وضباطه أصحاب الأوسمة اللامعة والنياشين البراقة، يقذف الوعود بأنه سيحسم الحرب في أسابيع، كانت تسيطر عليه ثقة شيطانية لا تخرج من هتلر ونابليون مجتمعين.

لكن اليمن لم يسقط المخطّط، ولم يكسر العدوان فحسب، بل وضع معادلة جديدة مفادها أن الهدف الأميركي الأول والأهم في المنطقة سهل المنال قريب، بضربتها المباركة على موقعي "بقيق وخريص"، أو ما عرفت بهجمات أرامكو في 14 أيلول/ سبتمبر 2019، قد وضعت النهاية للإجرام والاستكبار والتجبر في المنطقة، ووضعت نقطة على أحلام ولي العهد الذي فشل في تقديم أوراقه ثمنًا للعرش السعودي بكبرياء ومجد القائد العسكري المنتصر.

اختار ولي العهد السعودي طريقًا جديدًا يحقق به شيئًا ماديًا، يحقق له ما يرى هو في نفسه "الرجل القوي"، أن يخلق من العدم مشروع نيوم الهائل، يدخل به التاريخ كالبنائين العظام الذين امتلكوا الخيال والثروة والذكاء لإنشاء أعاجيب الدنيا، وتحت أوهام أنه يمتلك الثلاثة أسباب، أعلن عن مشروع في منطقة شبه ميتة شمال غربي المملكة، حيث تقترب بأكثر من اللزوم من الكيان والأردن ومصر، وتكون عالمه الخالي من ترسبات الماضي وكوابح القوى التقليدية في المملكة، مدينة أتلانتيس الخيالية ربما هي ما دار في عقله.

لكن؛ لأن الحقائق أقوى من الأوهام، مهما طالت جرعات مخدر الوهم أو التمنيات، فإن السقوط يأتي مع الوقت مروعًا ومن ارتفاع شاهق جدًا، فقد تواترت الأنباء عن خطة لتقليص المشروع تمهيدًا لإنهائه تمامًا، بعد أن أنهك الموازنة السعودية واستنزفها حتّى آخر سنت. ومع ذلك؛ المنجز منه على أرض الواقع لا شيء، المعلن حتّى اللحظة أن "مشروع نيوم" بأكمله قد طارت أطرافه وقلّص حجمه ومساحته، في النهاية سيهبط مستهدفًا سكان هذه البقعة من 1.5 مليون إلى 300 ألف شخص في 2030، كما أن مدينة "ذا لاين" الخيالية ستنضغط هي الأخرى من مستهدفات معلنة 160 كيلو مترًا امتدادًا على ساحل البحر الأحمر إلى 2.4 كيلو مترًا فقط، أي إنها ستفقد 98% من وزنها وثقلها قبل أن تولد.

هذه الإجراءات تأتي طبيعية في البلد العربي الأغنى بالثروة، ومع سلام كامل واستقرار، وفي ظلّ حماية أميركية تامة، هذه المملكة قد حققت بهذا السلام والاستقرار معدلات عجز موازنة مقدر بـ 4% في العام المالي الحالي 2024، نتيجة لانخفاض أسعار النفط وتراجع الإنتاج والآثار العكسية التي تضرب الأسواق العالمية بفعل أزمتي الفائدة والتضخم المستمرة. كما أن أرقام صافي الحساب الجاري للسعودية شهد تراجعًا مروّعًا، خلال العام 2023، إذ وصل إلى 34.1 مليار دولار، انخفاضًا من 151.5 مليار دولار في العام 2022، وهو ما أسهم في تراجع السيولة في الصندوق السيادي السعودي، والاضطرار للذهاب إلى الاقتراض بكثرة من أسواق المال العالمية، ثمّ الاتفاق على القرض الكويتي الضخم، والذي لن يكون الأخير في فصول المأساة السعودية.

تبقى مصر الدولة العربية الكبيرة سابقًا، ولأنها كانت كبيرة، فالكارثة فيها كانت ثقيلة، والحكاية فيها طويلة وأليمة مع خيار السلام الاستراتيجي و"أكتوبر نهاية الحروب"، ولها من التفصيل ما يقتضيه البيان، ولا تسمح به المساحة هنا.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

خبر عاجل