معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

هل تقود ثورة الجامعات أميركا لتتحرّر من إرهاب اللوبي الصهيوني؟
03/05/2024

هل تقود ثورة الجامعات أميركا لتتحرّر من إرهاب اللوبي الصهيوني؟

مشهد الاحتجاجات الجامعية ليس جديدًا على الحياة "الديموقراطية" في الولايات المتحدة الأميركية، على الرغم مما رافقه من عنف واعتقالات وتعسّف وحشي بحق الشبّاب. ولكن الجديد في المسألة هو الدوافع والأسباب وراء الاحتجاجات الطلابية التي تعمّ حجمًا لا يستهان به من الجامعات الكبرى والمهمّة كمًّا ونوعًا ومستوى، وأبرزها المطالبة بوقف فوري للحرب على قطاع غزّة واستنكار الجرائم التي يرتكبها الكيان الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني. وهذه الدوافع هي التي حملت عنصر المفاجأة في الدوائر السياسية والإعلامية عمومًا، ليكشف عن إرهاصات تغيّر جذري عند جزء مهم وأساسي من الرأي العام الغربي في ما تسمّى "بلاد الحرية".

ولئن بدأت هذه المطالبات تؤتي أكلها على صعيد وقف الاستثمارات بين بعض الجامعات و"إسرائيل"، كما حصل حتّى الآن في ريتشموند وهايوارد، إلا أن ما يجري اليوم في الوسط الجامعي الغربي يفتح على مجموعة من المؤشرات التي ينبغي التوقف عندها في قراءة التحركات الميدانية، وما قد تتركه على طبيعة الفهم العام في الشارع الأميركي لقضايا العالم، ليس على مستوى التعاطف الإنساني مع ضحايا الإرهاب الصهيوني من النساء والأطفال الفلسطينيين فحسب، بل أيضًا على مستوى نظرة الشعب الأميركي لحكومته من جهة، ولانقياد الموقف الرسمي وراء "إسرائيل" من جهة أخرى، خصوصًا أن هذه الاحتجاجات يدور رحاها في عشرات الجامعات، ومنها المشهورة مثل جامعة كولومبيا ومعهد ماساشوستس وجورج واشنطن ونيوهامبشير وكاليفورنيا وغيرها. وينتمي طلابها إجمالًا إلى الطبقات الميسورة، وغالبًا ما تخرّج النخب الحاكمة والقادة في مجالات الفكر والسياسة والاقتصاد، وغيرها من المجالات التي تسهم في صناعة القرار.

مؤشرات جوهرية

ما يزال الحكم على آثار التحرّك الطلابي ونتائجه مبكرًا جدًا، على الرغم من أن المعطيات ترجّح توسّعه داخل الولايات المتحدة وخارجها، وبدأت عدواه تنتقل إلى جامعات فرنسا وبريطانيا على وجه الخصوص، ولكن المؤشرات التي أفرزتها هذه التحركات تفيد بالآتي:

• انضمام بعض الهيئات التعليمية إلى الطلاب للمشاركة والحماية يؤكد الانقسام الحاصل داخل هذه المؤسسات البنائية. ولعلّ التحرّك الشبابي أعطى الفرصة للأساتذة بأن يعلنوا مواقفهم التي كانوا يكتمونها منذ أوقات طويلة. فلو رأينا أن الحماس هو الذي يدفع الشباب للتحرّك؛ فما يدفع الكبار لذلك إلا التجارب المتتالية والخلاصات الفكرية والقناعة الراسخة!؟ وهذا يعكس تغيّرًا جوهريًا في مستوى الوعي المجتمعي عند هؤلاء، ما يدفعهم إلى المخاطرة ومواجهة احتمال التعرّض للأذى والعنف والاعتقال أو خسارة وظائفهم التي جهدوا طويلًا للحصول عليها والفوز بها.

• فشل البروباغندا الغربية في الإبقاء على زيف الصورة الخادعة التي كانت تصوّر الولايات المتحدة ودول الغرب وأنظمته "المتقدّمة" على أنها واحات للديمقراطية والحرية، بدليل عدم احترام حرية الرأي لشريحة بناء رئيسة للنسيج الاجتماعي الأميركي – أي الشباب الجامعي – واستخدام العنف الشديد والقمع التعسّفي في مواجهة الاحتجاجات السلمية.

• حاولت القنوات والمنصات الإعلامية الغربية في البداية أن تهمل أو تقلّل من أهمية الحراك الجامعي اعتقادًا منها أن ما جرى هو حركة مؤقتة تضعف مع مرور الأيام. إلا أن إصرار الحراك الطالبي وتوسّعه وانتشاره داخل الولايات المتحدة وخارجها أجبر هذه القنوات والمنصات للاستدراك ومواكبة ما يجري، للحفاظ على الحد الأدنى من المصداقية، وهذا يقود إلى الاستنتاج بأن ثورة الانفوميديا ليست دائمًا أداة بيد قوى العولمة الغربية، بل يمكن أن تكون سيفًا ذي حدين يستفيد منها أصحاب المواقف الحرّة في إيصال صوتهم، ويشكّلون ضغطًا في الرأي العالم العالمي ويفرضون التأثير والتغيير.

• فشل الدعاية الصهيونية في الاستمرار بتسويق "إسرائيل" على أنها تخوض معركة السلام، وأنها بلد الديمقراطية الأول في العالم. ولعلّ ردّ فعل بنيامين نتنياهو الحادّة ومواقفه النارية تؤكد هذا الفشل، وتعكس خوفًا إسرائيليًا حقيقيًا من توسّع الاحتجاجات ونجاحها في قلب الصورة باتّجاه تكريس "إسرائيل" بلد الجريمة والإرهاب، ورؤية الأميركيين أنفسهم أن دولتهم داعمة للإرهاب وليس السلام.

الكونغرس يشرّع لتشريع القمع

• ربطًا بالمؤشر السابق، الدولة العميقة في الولايات المتحدة كانت إلى الأمس تظن بأن الجامعات مؤدلجة وذات مسارات فكرية مقولبة، وبمنأى عن التأثّر حيال قضايا الشعوب بما يدفعها إلى الانتفاض والمواجهة، ولذلك يمكن أن نفسّر مسارعة الكونغرس، بدفع ومطالبة "إسرائيلية" مباشرة، لإعادة قراءة وتفسير مقولة "معاداة السامية" - التي طالما اختبأ خلفها العالم الغربي في تسويغ ارتكاباته الإجرامية ومخالفته لأبسط حقوق الإنسان – سعيًا لتوسيع دائرة الحظر لتشمل الجمعيات والمؤسسات بمختلف مجالاتها ومستوياتها، والإطباق على أي صوت معارض لسياسات هذه الدولة، مع العلم بأن حراك الجامعيين لا ينطبق على ما يسمّى "معاداة السامية"، فضلًا عن أنهم لم يخالفوا القانون – كما تدّعي الحكومة – بل مارسوا حقهم في حرية الرأي بما تسمح به القوانين والتشريعات الأميركية والمواثيق الدولية.

• دلّت هذه التحرّكات على حجم كبير من الشجاعة على التحرّك في الحُرُم الجامعية والجرأة على رفع الصوت والجهر بشعارات يعلم الجامعيون تمامًا أنها مرفوضة من الإدارة الأميركية، وسوف تجرّ عليهم عواقب وخيمة. فالحراك موجّه لنصرة الشعب الفلسطيني ومعادٍ لـ"إسرائيل" التي تتحكّم بمفاصل القرار الأميركي بضغط من اللوبي الصهيوني، وهنا مكمن الخطر الذي يتوجّس منه نتنياهو خوفًا من تعاظمه وانتشاره إلى شرائح شعبية أخرى تعاني الأزمات الداخلية الأميركية، فيتضاعف التأثير السلبي ليصبح الاتّجاه منصبًّا ضدّ "إسرائيل" من دون تمييز أو فصل في عناوين التحركات الشعبية.

هناك الكثير مما سيُحكى عن ثورة الجامعات الأميركية، خصوصًا أنها تعدّ محطة فاصلة في تاريخ الولايات المتحدة داخليًا، وستتبعها تردّدات مختلفة الاتّجاهات تسهم -ولو نسبيًا- في إعادة تشكيل أي سلطة مقبلة. أما الثقل في هذه التأثيرات فهو خارجي ومتّصل بقضية فلسطين التي اعتقد الغرب أنها ماضية نحو الانحسار والموت بعدما نجحت واشنطن في سلبها انتمائها العربي والإسلامي، ولكن الأمل ألا تخبو هذه الأصوات مع وقف الحرب على قطاع غزّة، بل الانتقال إلى مرحلة أخرى لتتحرّر أميركا من إرهاب اللوبي الصهيوني.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

خبر عاجل