آراء وتحليلات
قانون معاداة السامية الجديد.. الخلفيات والأهداف والنتائج
صوّت مجلس النواب الأميركي، يوم الأربعاء الفائت، على القانون الذي قدمته مجموعة من المشرّعين من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وبأغلبية 320 صوتًا لصالح القانون مقابل 91 صوتوا ضدّه، حيث حصل على تأييد 187 ناىبًا جمهوريًا و133 نائبًا ديمقراطيًّا تحت عنوان "قانون التوعية بمعاداة السامية".
ما هي بنود القانون الجديد؟
يُلزم القانون الجديد وزارة التعليم في الولايات المتحدة باستخدام التعريف العملي لـ"معاداة السامية"، والذي وضعه التحالف الدولي لإحياء ذكرى "المحرقة بحق اليهود" عند تطبيق القوانين الفيدرالية لمكافحة التمييز. ووفقًا لهذا التعريف: "معاداة السامية تعني أي تصور معيّن لليهود يمكن أن يتجلى بكراهية تجاههم، وتستهدف المظاهر الخطابية والمادية لمعاداة السامية أفرادًا يهودًا أو غير يهود و/أو ممتلكاتهم ومؤسسات مجتمعية وأماكن عبادة". ويتضمن التعريف أيضًا تجريم حرمان "الشعب اليهودي" من حقه في تقرير المصير. كما ادعى القانون الجديد تزايد حالات ما أسماها "معاداة السامية" في الولايات المتحدة زاعمًا أنها باتت تؤثر على الطلاب اليهود في المدارس والكليات والجامعات من الروضة وحتّى الصف الثاني عشر.
خلفيات إقرار مشروع القانون الجديد
يأتي إقرار القانون من المشرّعين الجمهوريين والديمقراطيين، في مجلس النواب، بهدف مواجهة عشرات آلاف المتظاهرين من الطلاب في الجامعات الأميركية الذين يمارسون حرية التعبير ضدّ القتل العشوائي والإبادة الجماعية والفصل العنصري الذي تمارسه "إسرائيل" ضدّ الفلسطينيين وخاصة في قطاع غزّة. ووفقًا للتشريع الجديد؛ هؤلاء الطلاب باتوا "خارجين عن القانون" وهو ما يستوجب اعتقالهم وتقديمهم للقضاء لمحاكمتهم. وتاليًا؛ الغاية من القانون هو قمع تلك المظاهرات التي انطلقت من جامعة كولومبيا وانتشرت لتشمل ما يقارب 50 جامعة أخرى، من دون التمكّن من إيقافها والسيطرة عليها، على الرغم من تدخّل قوات الشرطة واعتقال ما يزيد عن 2300 متظاهر.
كما أن القانون الجديد يأتي بصفته جزءًا في سياق أشمل لمجموعة أخرى من القوانين والقرارات الأميركية التي سبقته، والتي تهدف لتأكيد الدعم الأميركي المطلق للكيان الصهيوني في حرب الإبادة التي يمارسها ضدّ الفلسطينيين وعدوانه الهمجي على غزّة. فقد وقع الرئيس الأميركي بايدن، قبل في 24 إبريل/نيسان، وفي الإطار ذاته على قانونين آخرين لدعم "اسرائيل"؛ أحدهما يتضمن تخيصيص حزمة مساعدات قيمتها 26.4 مليار دولار للكيان الصهيوني لدعم عدوانه على غزّة، والآخر تمثل بإصدار قرار بحظر تطبيق "تيك توك" الذي بلغ عدد مستخدميه داخل الولايات المتحدة 170 مليون بحجة التخوف من استخدام الصين لهذا التطبيق لأغراض تجسسية، وحقيقة الأمر هي أن تطبيق "تيك توك" كان له دور مهمّ في فضح حرب الإبادة الجماعية وكشف التجويع اللذين تمارسهما "اسرائيل" في غزّة.
من هي الجهات الحقيقية التي تقف خلف القانون؟
لم يعد خافيًا على أحد بأن مؤسسات القرار الأميركي التشريعية والتنفيذية تخضع مباشرة للمنظمات الصهيونية العديدة التي يديرها اللوبي اليهودي، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالكيان الصهيوني. وهذا اللوبي اليهودي له أذرع مالية وإعلامية ومراكز دراسات وتقرير السياسات والاستراتيجيات، ولديه القدرة والنفوذ على التحكّم وابتزاز السياسيين من الحزبين الجمهوري والديمقراطي ما يمكّنه من تمرير قراراته التي يريدها ليحقق مصالحه ومصالح "إسرائيل". وعلى رأس ذلك كله تتربع امبراطوريات روتشيلد المالية ولجنة الشؤون العامة الأميركية "الإسرائيلية" المعروفة باسم "ايباك"، والتي تمثل الذراع التنفيذية الأقوى لـ"إسرائيل" في الولايات المتحدة، وتتفرع عنها مؤسسات ضغط أخرى عديدة. ولا بد من الإشارة أيضًا إلى أن اللوبي اليهودي الإسرائيلي يستغل إلى أبعد حد ممكن موسم الانتخابات الرئاسية الأميركية الذي انطلق وسيستمر لمدة ستة أشهر، وممّا لا شك فيه بأن هذا اللوبي سيكون قادرًا على تمرير ما يريده من سياسات طوال تلك المدة.
التمهيد لإقرار القانون:
مع انطلاق المظاهرات الطلابية المؤيدة لفلسطين، داخل الجامعات الأميركية، والمطالبة بوقف الإبادة الجماعية التي تنفذها "إسرائيل"، بدأت حملة تضليل واسعة استهدفت تلك الاحتجاجات؛ حيث تسابق السياسيون الأميركيون ووسائل الإعلام الأميركية في الهجوم على تلك الاحتجاجات وانتقادها. وذهب بعض أعضاء الكونغرس إلى اتهام حركة "حماس" بالوقوف خلفها في ما اتّهم آخرون إيران بالتهمة ذاتها، وانتقد عمدة نيويورك قيام المتظاهرين برفع علم دول أخرى متناسيًا قيامه برفع علم الكيان الإسرائيلي في أكثر من مناسبة. وطالب أعضاء في الكونغرس باعتقال المتظاهرين وطردهم من الجامعات بحجة ضمان السلامة العامة وحقوق الطلاب. كما اتّهم نواب آخرون المتظاهرين بدعم حركة "حماس" ووصل بهم الأمر إلى اتهامهم بتقديم الدعم المادي لـ"حماس".
وعلى الصعيد الإعلامي، تعمّدت وسائل الإعلام الأميركية تضليل الرأي العام من تضخيم عمليات المقاومة الفلسطينية المشروعة في الدفاع عن النفس، وتضخيم ملف الأسرى الإسرائيليين عند حماس، والتركيز على القتلى الصهاينة. وفي الوقت ذاته تعامت وسائل الإعلام تلك عن حقيقة المجازر التي ترتكبها "إسرائيل"، وعن عدد الضحايا الفلسطينيين، وكذلك عن عمليات التدمير الممنهج التي طالت كامل القطاعات بما فيها المستشفيات في غزّة، وذهب الأمر ببعض وسائل الإعلام إلى تصوير المتظاهرين في الجامعات على أنّهم من أنصار الإرهاب، وبأنهم باتوا يشكلون خطرًا وتهديدًا على المجتمع الأميركي.
يمكننا الإشارة أيضًا إلى حادثة مهمّة ومتعمدة وقعت في جامعة كاليفورنيا، في لوس انجلس، حيث قامت حشود مؤيدة لـ"إسرائيل" بالاعتداء على المظاهرات الطلابية المؤيدة لفلسطين بواسطة الألعاب النارية. وكان الهدف من ذلك افتعال اشتباك بين الجانبين لخلق مسوّغ للادّعاء بأن المظاهرات الطلابية ليست سلمية، ما يستدعي تدخّل قوات الشرطة وتنفيذ اعتقالات، ولاحقًا تشريع قانون معاداة السامية.
افتضاح الكذب الأميركي
يمكن القول بأن الولايات المتحدة الأميركية، والتي لطالما تفاخرت وتغنّت بالديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان واستخدمت تلك العناوين الخادعة للتدخل والضغط على الدول التي تعارض سياساتها طوال عقود من الزمن، قد سقطت في فخ لطالما أرادت لغيرها الوقوع فيه. وباتت اليوم أمام فضيحة مجلجلة لا يمكنها التستر عليها، سواء أمام شعبها في الداخل أم على صعيد سمعتها الخارجية، ويرجع ذلك للأسباب الآتية:
• إن الكونغرس الأميركي، بتمريره قانون معاداة السامية، قد تخلّى عن إرادة الشعب الأميركي استجابة لضغط منظمات اللوبي اليهودي، وتحول انتقاد "اسرائيل" والصهيونية إلى جريمة يعاقب عليها القانون.
• إن الكونغرس ذهب إلى تشريع حماية "إسرائيل" وسلامتها على حساب الحقوق الدستورية للمواطنين الأميركيين المتمثلة بحرية التظاهر والتعبير السلمي، وهو ما دفع البعض للقول بأنّ ذلك اعتداء على الأمن القوميّ الأميركي.
• إن عملية الخلط المتعمد بين انتقاد الإبادة الجماعية والتجويع التي ترتكبها "اسرائيل" وبين معاداة السامية يمثل في الحقيقة اعتداء صارخًا على حقوق المواطن الأميركي في التجمع والتظاهر السلمي وحرية التعبير.
• أين حقوق الإنسان والمواطنة عندما يُشرّع إدخال الشرطة إلى حرم الجامعات الأميركية لتمارس العنف والاعتقال بحق طلاب وأساتذة جامعات أرادوا التعبير عن رأيهم، وفقط عندما يتعلق الأمر بانتقاد "اسرائيل" وجرائمها وسياساتها؟
• إن هذا التشريع لمعاداة السامية سيسهم بكشف زيف الإعلام الأميركي وزيف المواقف السياسية الأميركية التي عملت على تسويق حرب الإبادة الإسرائيلية والتجويع بحق الفلسطينيين على أنها انتقام مسوّغ ودفاع عن النفس.
• إن القانون الجديد لن يكون بمقدوره منع الحركة الاحتجاجية للطلاب من التمدد والانتشار خارج الولايات المتحدة، وهو ما بات واضحًا في دول عدة حليفة لواشنطن في أوروبا وآسيا، ولن يكون باستطاعة واشنطن أن تمنع أخبار تلك الاحتجاجات من الوصول إلى الداخل الأميركي.
أخيرًا؛ إن واشنطن التي استخدمت تهمة الشمولية في وصف الكثير من خصومها، تحولت اليوم ووفقًا لمعاييرها التي اعتادت أن تقيّم بها غيرها، إلى دولة بوليسية شمولية تقمع وتعتقل مواطنيها لمجرد تعبيرهم عن آرائهم.
إن السياسات والاستراتيجيات الأميركية باتت مهدّدة اليوم على الصعيد العالمي، في ظلّ التحولات الجيوسياسية التي يشهدها العالم، وتفلّت العديد من الدول من القبضة الأميركية، وجرأة الكثير منها على رفض الضغوط الأميركية أو مخالفة سياسات واشنطن. وهو ما بدا أكثر وضوحًا منذ بدء العدوان على غزّة، وإن قانون معاداة السامية الجديد لن يزيد العالم إلا نفورًا من واشنطن