آراء وتحليلات
ردّ حماس الاستباقي ومفاوضات القاهرة والمأزق الأميركي "الإسرائيلي"
انتهت في العاصمة المصرية القاهرة جولة المفاوضات غير المباشرة لوقف إطلاق النار في غزّة بين وفد حركة المقاومة الإسلامية حماس والوفد "الإسرائيلي" بوساطة مصرية قطرية ورعاية وإشراف مباشر من قبل مدير المخابرات الأميركية وليم بيرنز والذي يتنقل بين القاهرة و"تل أبيب" وعواصم أخرى إقليمية.
وجاء استئناف تلك المفاوضات بعيد إعلان حركة حماس عن قبولها بما سمّي "المقترح المصري" لوقف إطلاق النار، في الوقت الذي كانت "إسرائيل" تتجهز لاجتياح مدينة رفح في جنوب القطاع والتي تضم ما يقارب مليونًا ونصف مليون فلسطيني.
وشمل المقترح الذي وافقت عليه حماس بالتنسيق مع فصائل المقاومة ثلاث مراحل تضمنت تبادلًا متدرًجا للأسرى وانسحابًا للجيش "الإسرائيلي" من القطاع على مراحل، بالإضافة إلى خطة لإدخال المساعدات وإعادة الإعمار وغيرها، ومدة كلّ مرحلة ثلاثة أسابيع.
بدا واضحًا أن قرار حماس شكل صدمة لحكومة نتنياهو وارتباكًا لإدارة بايدن بعد أن كان الجانبان قد نسقا في ما بينهما عسكريًا لإعداد خطة لاقتحام رفح وتهجير سكانها خلال لقاءات متعددة بينهما وعلى الأخص خلال زيارة وزير الحرب الصهيوني "غالانت" الأخيرة لواشنطن ولقاءاته مع مسؤولين في البنتاغون ومكتب الأمن القوميّ.
ولذلك فإنه يمكن القول بأن موافقة حماس بالإضافة لكونها مهمّة لتحقق المطالب المعلنة للمقاومة وللجانب الفلسطيني فإنها يمكن أن تشكّل خطوة استباقية في السياسة لسحب الذرائع من أيدي واشنطن و"تل أبيب" لتنفيذ الخطة المشتركة في رفح، وخاصة أن خطوة حماس لاقت تأييدًا من قبل محور المقاومة، وترحيبًا ربما كان اضطراريًا من قبل دول الوساطة ودول التطبيع الإقليمية.
وظهر الارتباك الأميركي بوضوح من خلال إعلان واشنطن أنها تدرس ردّ حماس على المبادرة، فيما أوعزت للوسطاء باستئناف المفاوضات، وإلى مدير مخابراتها بيرنز بالبقاء في المنطقة من أجل الإشراف عليها بشكل مباشر، وأما صدمة نتنياهو فقد ترجمتها مواقفه غير الواضحة التي حاول من خلالها إمساك العصا من المنتصف بإعلانه الاستمرار في العملية العسكرية في رفح، وإرساله وفدًا إلى القاهرة لاستمرار التفاوض، في محاولة منه لإرضاء اليمين المتطرّف في حكومته من جهة، ومن جهة أخرى تجنب الضغط الذي يمكن أن يتعرض له من قبل إدارة بايدن، وبالتوازي مع ذلك تحرك الجيش "الإسرائيلي" للسيطرة على الجزء الفلسطيني من معبر رفح، فيما استمر بعدوانه على الأحياء الشرقية لمدينة رفح دون المغامرة باقتحام بري حتّى الآن.
وبلا شك فإن سيطرة جيش العدوّ الصهيوني على الجزء الفلسطيني من معبر رفح قد تمّ بناء على خطة أميركية "إسرائيلية" مسبقة كان قد تم الاتفاق على تفاصيلها كما ذكرنا قبيل إعلان حماس عن ردها، وبعلم وتنسيق مع مصر وفق ما سربته وسائل الإعلام "الإسرائيلية" عن زيارة رئيس الأركان الصهيوني لمصر الشهر الفائت، وكان الإعلام الأميركي قد سرب في السابق تفاصيل تلك الخطة التي اقترحتها واشنطن على نتنياهو وقادة الجيش "الإسرائيلي" والتي تتضمن تطويق ومحاصرة رفح، وتنفيذ ضربات جوية دقيقة فيها، والاعتماد على أجهزة مراقبة حديثة.
وهذا ما دفع إدارة بايدن للقول وعلى لسان أكثر من مسؤول فيها وعلى رأسهم الرئيس بايدن بأنها لا تعتقد بأن ما قامت به "إسرائيل" حتّى الآن يشكّل تجاوزًا للخط الأحمر، وبأنه ليس اجتياحًا بريًّا لرفح.
وتعتقد حكومة نتنياهو ومن أمامها إدارة بايدن بأن هذه الخطة تمثل إرضاء لليمين المتطرّف في "إسرائيل"، وفي ذات الوقت ضغطًا على المقاومة وقادتها في غزّة، وتساهم في رفع الحرج عن النظام المصري، ويمكنها أن تجنب "إسرائيل" ردود فعل كبيرة وشديدة من قبل جبهات الإسناد في محور المقاومة، وكذلك فهي تساهم بتسويق ميناء بايدن كخيار الضرورة الأوحد وخاصة أن البنتاغون أعلن انتهاء أعمال بناء الميناء وجاهزيته للعمل.
وفي الوقت الذي كان يطلب فيه من حماس الرد بشكل إيجابي على المبادرة المسماة مصرية، فإنه يطلب اليوم من "إسرائيل" أن تتفاوض على المبادرة بدلًا من الضغط عليها للقبول بها، والهدف هو إعطاء واشنطن و"تل أبيب" مزيدًا من الوقت لترتيب بعض أوراقهما الداخلية على وجه التحديد.
وفي هذا الإطار تحديدًا أتى قرار بايدن بالتعليق المؤقت لصفقة أسلحة أميركية مستقبلية للكيان "الإسرائيلي" بحجة أنها تتضمن قنابل ثقيلة غير مخصصة لاقتحام المدن وتتسبب بعدد كبير من الضحايا، وحقيقة الأمر هي أن صفقة التسليح ليست آنية ويريد بايدن من خلال تجميدها المؤقت المخادع تبييض صورته في الداخل الأميركي بعد أن أظهرت استطلاعات الرأي أن نسبة واسعة من الشباب من الحزب الديمقراطي سيمتنعون عن التصويت في الانتخابات الرئاسية القادمة بسبب امتناع بايدن عن إيقاف الحرب على غزّة ودعمه للإبادة الجماعية التي تنفذها "إسرائيل"، وبعد أن تحولت المظاهرات الطلابية إلى خطر داخلي يتهدّد الاستقرار وينذر بالتفاقم، والدليل على ذلك ما نقلته وكالة رويترز عن البيت الأبيض من أن القرار النهائي حول صفقة التسلح لم يتخذ بعد، وأن واشنطن مستمرة في دعم "إسرائيل".
في الختام، فإنه من المتوقع أن تستأنف مفاوضات القاهرة التي غادرتها الوفود للتشاور، وأن تتزامن مع تحرك "إسرائيلي" في رفح وفقًا للخطة الأميركية التي ذكرناها، ومن غير المستبعد أن تلجأ اسرائيل لارتكاب مجازر كبيرة أو ارتكاب حماقة من العيار الثقيل في الوقت المتبقي كما جرت العادة في حروبها السابقة للتغطية على هزيمتها. وبالمقابل فإن محور المقاومة الذي رفع وتيرة استهدافاته كمًّا ونوعًا وخاصة على الجبهة اللبنانية ردًّا على الخطة الأميركية "الإسرائيلية" في رفح، فيما تستعد جبهات الإسناد وتترقب نتائج المفاوضات، ومن الواضح أن وتيرة تلك الاستهدافات مرتبطة بحجم العدوان على رفح، وبما يمكن أن تصل إليه المفاوضات.
ومن الآن وحتّى موعد الاثنين القادم حيث يطل سماحة السيد حسن نصر الله ليضع النقاط على الحروف، فإن الضغط الميداني المتبادل سيكون هو المسيطر الرئيسي.