آراء وتحليلات
مسارات أربيل الجديدة نحو طهران
بدعوة رسمية من الحكومة الإيرانية، زار رئيس حكومة إقليم كردستان نيجرفان البارزاني طهران، في الثالث من شهر أيار/ مايو الجاري. والتقى على مدى يومين كبار القادة والمسؤولين الإيرانيين، ابتدًاء من آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي مرورًا برئيس الجمهورية السيد إبراهيم رئيسي ورئيس مجلس الشوري الإسلامي محمد باقر قاليباف ووزير الخارجية أمير حسين عبد اللّهيان والأمين العام لمجلس الأمن القوميّ أحمد أكبريان وقائد الحرس الثوري الجنرال حسين سلامي وآخرين غيرهم.
مثّلت زيارة البارزاني مؤشرًا مهمًا ونقطة تحوّل في مسيرة العلاقات المتعثرة بين طهران وأربيل، وتحديدًا بين طهران والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني، على مدى سبعة أعوام تقريبًا.
ولعلّ مسارات التعثر ارتبطت، في مقدار معين، بالاستفتاء الشعبي العام الذي أجرته سلطات الإقليم حول الاستقلال أو الانفصال، في الخامس والعشرين من شهر أيلول/ سبتمبر من العام 2017، ذلك الاستفتاء الذي قوبل بردود فعل ومواقف سلبية، محليًا وإقليميًا ودوليًا. بعد ذلك تفاقمت الأمور، وازدادت سوءًا بين الطرفين، سيّما مع دعم اربيل لقوى تسعى للتخريب في الداخل الإيراني انطلاقًا من أراضي الإقليم.
كلّ ذلك وربما غيره، فضلاً عن الضخ الإعلامي المباشر وغير المباشر، أسهم في تأزيم الأمور واتساع هوَة الخلافات الكردية- الإيرانية، والتي انعكست بشكل أو بآخر على صورة العلاقات بين الديمقراطي الكردستاني وبعض القوى السياسية في بغداد القريبة من طهران.
ومع أن التواصل لم ينقطع تمامًا في بعض المستويات، إلا أنه لم يكن كافيًا للملمة الخلافات واحتوائها والحد من الخلافات بين طهران وأربيل، إلا بعد إشارات إيجابية أطلقتها طهران مؤخرًا، تمثلت بتوجيه دعوة رسمية لرئيس الإقليم لزيارتها، وطرح كلّ القضايا بصراحة، وفتح جميع الملفات بالكامل، ولم يكن البارزاني بحاجة إلى مترجم وهو يتحاور مع كبار القادة الإيرانيين؛ لأنه يتقن اللغة الفارسية جيدًا.
وفي الواقع، ذهب نيجرفان البارزاني إلى طهران بصفته مبعوثًا خاصًا من قبل عمه البارزاني أكثر من كونه رئيًسا للإقليم؛ لأن خلافات طهران هي مع الديمقراطي الكردستاني أكثر مما هي عليه مع الإقليم في إطاره العام والشامل، علمًا أن بعض وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي استبقت زيارة رئيس الإقليم إلى طهران، بتداول خبر عن لقاء زعيم الحزب الديمقراطي في مقره في منتجع صلاح الدين، بوفد إيراني ضم السفير الإيراني الأسبق في بغداد حسن دانائي فر والقيادي في الحرس الثوري عبد الرضا مسكريان، وشهد اللقاء - بحسب المصادر - بحثًا لسبل تحسين العلاقات بين الحزب وإيران وترتيبًا لبرنامج زيارة رئيس الإقليم.
ولعل الخطوات الإيرانية التصالحية تجاه أربيل، لا تبدو غريبة، لأن المعروف عن صنّاع القرار الإيراني مرونتهم وتحديد أولوياتهم، وفقًا لطبيعة الظروف والتحديات القائمة، وسعيهم لتحقيق التوافق مع دول الإقليم. ومثلما أكدوا للبارزاني، حرصهم على إقامة أفضل العلاقات مع إقليم كردستان والعراق، في الوقت ذاته؛ القيادات الكردية تدرك أن إيران طرف مهم وفاعل ومؤثر، وحقائق التاريخ وثوابت الجغرافيا وطبيعة المصالح تحتم البحث والتركيز على نقاط التفاهم والالتقاء لا على نقاط التصادم والافتراق.
وبعيدًا عن تجاذبات الأعوام القلائل الماضية، تعدّ مسيرة العلاقات بين طهران والحزب الديمقراطي الكردستاني وعموم المكون الكردي العراقي بعناوينه ومسمياته المختلفة إيجابية، ولم تتخللها منعطفات سلبية كبيرة، بعد انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية وتأسيس النظام السياسي الإسلامي في العام 1979، بل إن العمل العراقي المعارض حظي بدعم وإسناد إيراني جيد، لا سيما في إقليم كردستان بعد حصوله على إدارة ذاتية مستقلة في أعقاب حرب الخليج الثانية والانتفاضة الشعبية في العام 1991.
فضلًا عن ذلك، لجأت قيادة الحزب الديمقراطي، في عهد الراحل الملا مصطفى البارزاني، إلى إيران بعد مؤامرة إفشال الثورة الكردية في العام 1975 عبر التعاون والتنسيق بين الولايات المتحدة الأميركية ونظام حزب البعث في العراق ونظام الشاه محمد رضا بهلوي في إيران، وعادت إلى كردستان بعد انتصار الثورة الإسلامية بأعوام قلائل، لتستأنف نشاطها السياسي والعسكري المسلح المعارض من أراضي الإقليم.
بعبارة أخرى، إن العلاقات التاريخية الإيجابية بين طهران والأكراد، لا سيما الحزب الديمقراطي الكردستاني، بالرغم من وجود الاختلافات والتباين في المواقف والولويات، تبقى مساحات المصالح المشتركة والمتبادلة ليست قليلة، سواء في إطار العراق عمومًا، أو في نطاق الجغرافيا الكردية وخصوصية الإقليم واستقلاليته، على وجه الخصوص. فالمشتركات الأمنية والمعايير الجيوسياسية والمصالح الاقتصادية، كلها عوامل دافعة بالاتّجاه الإيجابي. وهذه العوامل متداخلة ومتشابكة في ما بينها، ولا يمكن لأي طرف تجاهلها والقفز عليها.
وممّا لا شكّ فيه أن علاقات إيجابية بناءّة بين طهران ومختلف القوى الكردية، لا سيما الرئيسة والكبيرة والمؤثرة منها، مثل الحزب الديمقراطي الكردستاني، من شأنها أن تسهم في تقليص حدة الخلافات والأزمات داخل البيت الكردي، وتحقق تاليًا قدرًا أكبر من الاستقرار السياسي والأمن المجتمعي، والذي يفضي تلقائيًا إلى مزيد من الحراك الاقتصادي، علمًا أن التقديرات تشير إلى أن حجم التبادل التجاري بين إيران والإقليم يبلغ نحو ستة مليارات دولار سنويًا.
بصورة أوضح، علاقات طهران الإيجابية مع الإقليم تعني في ما تعنيه حلحلةً لمختلف العقد والمشكلات، بين أربيل والسليمانية من جانب، وبين بغداد وأربيل من جانب آخر، سواء المتعلّقة منها بانتخابات الإقليم أو تشكيل حكومة كركوك المحلية أو الملفات المالية، أو آليات إدارة الموارد والثروات وتوزيعها، وغير ذلك. وبالتأكيد؛ مسارات أربيل الجديدة نحو طهران، والعكس أيضًا، لا يبتعد عن مجمل الحراك التصالحي الإقليمي بين الفرقاء أو الشركاء في المنطقة.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024