آراء وتحليلات
العماد.. سلاح الحزب الأمضى
حين انطلقت عملية "طوفان الأقصى" بدأ واقع جديد بالتشكّل في المنطقة العربية والإسلامية، فقد برزت "وحدة الساحات" بين جبهات الشرف في ردّ أولي على جنون العنف الصهيوني، وارتفعت البندقية العربية لأول مرة حيث تخطت طموحات وأحلام جماهيرها، دخلت المقاومة الإسلامية في لبنان، يوم الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ثمّ دخلت جبهات المحور تترى إلى ساحات الجهاد، كان هذا كله تطوّرًا استراتيجيًا وتراكمات طويلة وغالية، سرعان ما فرضت واقعًا جديدًا، ليس على العدوّ وحده، وإنما حتّى على الداعم المباشر في واشنطن.
صورة المنطقة اليوم تغيرت جذريًا عن صورتها قبل ساعة واحدة من صباح السابع من تشرين الأول الماضي، فالقضية الفلسطينية التي وضعت لتنتظر الموت والدفن، بفعل بعض خونة العرب وحكامهم، قد استيقظت كعملاق فرض ذاته على المعركة والمنطقة والعالم. هذا التغير يستدعي قراءة جيدة لأحداث ما قبل الطوفان، ويحتاج إلى قراءة متأنية لقادة هذا النصر الإلهي، القادة الذين حضر حصاد عمرهم الجهادي وأيامهم التي أفنوها في محاربة الباطل ونصر الحق، وهم أحق الناس بالذكر اليوم.
من الثوابت أن كيان العدوّ يتلقى الدعم على مستويين: الدعم الأميركي والغربي بالتبني، ثمّ الدعم الأهم والأكبر من الأنظمة العربية، من فشلها وخنوعها وتآمرها وخيانتها للقضية، ومتاجرتها حتّى بشعوبها مقابل كراسي السلطة. لقد كان التشرذم العربي والانقسام العربي هو ما سمح أولًا بقيام الكيان، ثمّ سمح باستمرار هذه الخطيئة التاريخية والإنسانية والدينية لمدة 76 عامًا.
إذًا، معادلة المواجهة، عقلًا ومنطقًا، كانت تقتضي وحدة من نوع ما بين مجاهدي الأمة، وحدة كاملة بين حاملي دروع الحق والشرف والعدالة. فكما تعلّمنا في تجاربنا العسكرية مع الكيان، إنّ أول ما يفعله عند بداية أي حرب هو تقسيم الجبهات والاستفراد بها واحدة بعد الثانية، حيث يوجه كلّ قوة النيران التي يمتلكها على جبهة واحدة في مرة واحدة، حينذاك تتحول الضربة الثقيلة على الرأس إلى دوار عنيف، وتفقد القيادات وعيها، وتنتشر اتهامات التخوين والتفريط وتعلو النبرة الوطنية الضيقة الذميمة.. ببساطة، يدخل العرب القتال، ثمّ عند أول منحنى على الطريق يتفرقون ويتعاركون، ويتركون للكيان ابتلاع المزيد من أرضهم وشرفهم، ومسح كرامتهم بالوحل.
ما طرأ من تغيير على جبهة القتال كان لعدّة عوامل، أولها أن محور المقاومة الذي قام وتعمد بالدم وبالمعارك المتتالية، أدرك ما لم يره الحكام أو السياسييون العرب الكسالى، رأى أن التفتيت يساوي الهزيمة، وأن انتظار وضع دولي مهيأ لقبول عمل عسكري هو أضغاث أحلام أو تمنيات عاجزة واهمة، وإنه إذا كان هناك سبيل للتحرير والتخلص من هذه السرطان، فهو وحدة السلاح والهدف، وقد منّ الله على الأمة في هذه المرحلة برجال كانوا على العهد، سماحة السيد حسن نصر الله بحكمته وثقته وتجربته، ثمّ القائد الشريف السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي، ثمّ القيادة السورية بمواقفها الراسخة ودعمها غير المحدود بالرغم من كلّ ظروفها، وآية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي بحسمه وتفرد موقفه، بثباته وبصيرته، بروحه وشخصيته التي كانت ركنًا شديدًا لمحور المقاومة كله، وخير ظهير ومعين للمجاهدين والجبهات، البذل الدائم الدائب الكبير دونما انتظار لكلمة تقدير، بل كان سماحة القائد هو الأكثر تأكيدًا في كلّ مقابلة على أن الصمود الفلسطيني هو مفتاح النصر.
هذا على مستوى المعركة، وهي ما تزال طويلة، وما تزال التضحيات فيها واجبة، وتدفع بكلّ رضى وقناعة وحبور.
لكن الإنجاز العسكري المذهل للمقاومة لم يكن وليد السابع من تشرين. هذا الإنجاز جاء بيد الكيان، جريمته التي ارتدت عليه دمًا ونارًا، حين فكرت "حكومة الكيان" الدموية باغتيال الشهيد عماد مغنية، فإنها لم تعرف الشهيد جيدًا، ولم تعرف حزب الله من الأصل، الكيان في مواجهة الحزب –دائمًا - كان يظن أنه أمام طرف عربي من الممكن ردعه بالقتل، لن يفهموا أبدًا أن دماء الشهداء تبقى وتحيا وتثمر، لن يدركوا أبدًا لهفة المجاهدين على نيل هذه الدرجة العظيمة، عقولهم ونفوسهم تظن أن الشهادة هي النهاية، وهي أبدًا لم تكن كذلك بالنسبة إلى أفئدة عُلقت بكربلاء، وترتل مشاهدها ليل نهار، وتعدّها الهدف الأسمى للمجاهد.
أحد صنّاع التاريخ الجديد بعد السابع من تشرين الأول، كان هو القائد الحاج عماد مغنية، كما كان السيد مصطقى بدر الدين (ذو الفقار)، وغيرهما من قادة الحزب وأبطاله وصنّاع مجده العظيم. لم يكن النجاح الأكبر للعماد (الحاج رضوان) في أنه غيّر مفهوم المواجهة مع الكيان، وهو قد نجح في جعلها مواجهة عقدية شاملة، ولم يكن إنجازه الأكبر في أنه كسر واقعًا عربيًا سائدًا ومحبطًا ومهزومًا، وهو قد أنجز الكثير في هذا السبيل، ولم يكن تفوقه القاطع الواضح لأول مرة في ساحة قتال عسكري استثناء من مسيرته، وهو استثناء عظيم في مسيرة طويلة وجبارة، لكن أسطورة العماد – معجزته أن دققنا - هو أنه ألهم شباب هذه الأمة روحية القتال إلى الأمام، القتال للتحرير، لا لمجرد الصمود أو الارتكان إلى ما تحقق، جعل إنسان هذه الأمة يرى معنى التحرير ويلمسه ويتفاعل معه، ولو وجدانيًا.
الحاج رضوان- وكما وصفه سماحة السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله- قدم جهاد حياته "صدقة سر مع لله"، لكن تبقي جملة: "إن من حق عماد على الأمة أن تعرفه، من أجلها لا من أجله"، ومن حقنا اليوم أن نلهج بذكراه، ونصرخ باسمه، عسى العدوّ الغبي يفهم أن هذه الدماء كانت أول مسامير دقت في نعشه، الحاج رضوان كان قادرًا على أن يحوّل هذا الكيان من "غول" في وجدان العرب، إلى وجوه مرعوبة يغطيها الدم والدموع وتتلازم الانسحابات والخيبات مع صورة جنوده المذعورين.
إذا كانت الكتابة هي محاولة لتأطير، أو حتّى تخليد، شخصية أو لحظة فارقة في التاريخ، وبالتالي محاولة التركيز على التأثير العابر للأزمان، في شخصيات ولحظات، هي بذاتها خلاصة الجمال والعظمة والبهاء، فعل الله المباشر في الأرض حين يعزّ الفعل ويعجز، وهي - مجردة - كانت كافية لتنور الدرب كله، تحية إلى العماد وذو الفقار، وتحية لكل مجاهد ثابت على الطريق يستكمل المسيرة المظفرة لنفي هذا الشيطان الأميركي ومن قبله التابع الصهيوني من مدننا وبلادنا وأوطاننا، ومن تاريخنا.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
29/11/2024