آراء وتحليلات
رسائل المنطق واليقين في خطاب السيد نصر الله
إذا كان افتقاد البدر في الليلة الظلماء دليلًا على أهمية الاسترشاد بنوره لضمان السلامة وسلوك الدرب بأمان، فهذه الأهمية تتضاعف عندما تصبح الحاجة لسطوع هذا البدر دائمة لدى المحبّين والمناوئين في آن معًا، فيزداد عشاق النور والضياء يقينًا وطمأنينة وثقة بصحة الخيارات ودقة قرارات التحرك ومساراته المعتمدة، ويتقن المغلوب على أمرهم والمذعنين لإرادة الظلاميين الجدد أنهم في الطريق إلى المجهول، والأهم من هذا وذاك إذعان أصحاب الرؤوس الحامية والمحشوة استكبارًا وتيهًا وعتوًا وعلوًا أنهم مرغمون على التفكير بكلّ كلمة تقال، والتسليم بصحة الاستنتاجات، وبالتالي إعادة الحسابات وفق المعادلات الجديدة التي تفرضها المقاومة، وتقدم البراهين الدامغة على صوابية الركون إليها.
حقائق الواقع القائم الذي يراه الجميع ويعيش تداعياته تؤكد أن خطابات الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله تجاوزت كلّ ما هو متعارف عليه في عالم الخطابة والتواصل والشرح والإقناع وتكوين الرأي العام لدى كلّ من يهتم بظاهرة الرأي العام وكيفية تشكيله وتوجيهه وتأثيراته، ولا أدل على ذلك من اهتمام معسكر الأعداء بكلّ كلمة يقولها سماحته، وقناعة الداخل المعادي بمصداقية ما يقوله سماحة السيد نصر الله، وبالكذب والدجل والنفاق والتضليل والأباطيل التي تغلف خطابات حكام "تل أبيب" على اختلاف مسمياتهم واصطفافاتهم الموزعة بين يمين متشدد، ويمين اليمين الأكثر تزمتًا وعتوًا وغطرسة، إلى درجة باتت تشكّل فيها أحد أهم الأخطار الوجودية التي يواجهها الكيان المؤقت.
يدرك المتابعون المهتمون بما ينشره الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي المعادية وبخاصة الإسرائيلية منها أن إطلالات صادق الوعد تجاوزت بأشواط موضوع الحرب النفسية، وغدت أحد أهم أسلحة الحسم الميداني عسكريًا وسياسيًا ومعنويًا. وإذا كانت أنجح الحروب وفق المقاييس الاستراتيجية تلك التي تحقق أهدافها الأساسية من دون الحاجة والاضطرار إلى استخدام القوّة الصلبة "الأسلحة ووسائط الصرع"، فهذا ينطبق بدقة ـــ وفي كثير من الحالات ـــ على خطابات سماحة السيد نصر الله، حيث الحجة التي لا تدحض، والمنطق الذي لا يمكن تسفيهه ولا الرد عليه أو التقليل من أهميته، وحيث والبرهان الدامغ الذي يفضح بسفور كذب الآخرين ودجلهم ونفاقهم الذي لم يعد بالإمكان تمريره ولا حتّى القبول بتسويقه، وكلّ ذلك ممزوج بمسحة من الصفاء والنقاء والاطمئنان الداخلي الكبير والثقة العالية بالنهج وبالنفس، والقناعة الموضوعية بكلّ ما يتضمنه الخطاب من أفكار ورؤى ومواقف استنادًا إلى معطيات الواقع، وإلى ما أثبته تطوّر الأحداث وتداعياتها التي تتبلور. وقد يكون من المفيد هنا التوقف عند بعض العناوين البارزة في خطاب سماحة السيد حسن نصر الله في ذكرى استشهاد القائد الجهادي السيد مصطفى بدر الدين "ذو الفقار"، وسأكتفي بعنوانين: الدور السوري المركزي ضمن محور المقاومة، والخيارات المتاحة لـ"تل أبيب" في هذه الجولة المفصلية من الصراع في المنطقة وعليها.
استمرارية فعالية الدور السوري المقاوم
منذ ثلاثة عشر عامًا ونيف وسورية تواجه أعاصير الشر والإرهاب المسلح والممنهج بالتزامن مع سيل من الأكاذيب والسرديات الخاوية إلا مما يتم ترويجه عبر إمبراطوريات إعلامية تنتعش بسفك الدماء والمتاجرة بآلام الناس وجراحاتهم النازفة على مدار الساعة، وما يزال العديد من أصحاب الأقلام المأجورة وغيرهم من اليائسين والمحبّطين يراهنون على إمكانية إسقاط الدولة السورية، وبعضهم شط به الخيال وراح يحلم ويسوق أحلامه على أنها حقيقة، وأن سورية اليوم تعمل على تفكيك ما تبقى من عرى تربطها ببقية أطراف محور المقاومة، وطاب لبعضهم رفع سقف أحلام اليقظة لتسويق أن سورية أخذت تنأى بنفسها عن المقاومة نهجًا وسياسة ومحورًا، وجاءت إطلالة سماحة السيد نصر الله لتعصف بكلّ ذلك دفعة واحدة، وبشكل مبسط ومفهوم، ولا أحد يستطيع إنكاره، وهنا يمكن الإستناد إلى بعض النقاط التي أشار إليها سماحة السيد في مقاربته لهذا العنوان، ومنها:
• كلّ ما تم الحديث عنه مع موجات "الصقيع العربي" من عناوين إنما هو كلام حق يراد به باطل، فأحد الأهداف الرئيسية للحرب على الدولة السورية (أن تُصبح سورية في دائرة الأميركيين وخاضعة للإدارة الأميركية كالكثير من الأنظمة والدول في عالمنا العربي والإسلامي، أو أن تغرق في حرب أهلية مدمرة تستمر لعشرات السنين كما يحصل وحصل في دول أخرى أيضًا).
• إدراك حزب الله أدرك منذ البداية أن الهدف الرئيس هو إخراج سورية من محور المقاومة، وإرغامها على تغيير موقعها وتموضعها، ولقطع الطريق على ذلك كان الحضور الميداني لحزب الله في سورية بهدف (الدفاع عن سورية لتبقى في جبهة المقاومة.. في موقع المقاومة.. في محور المقاومة وهذا هو الحال الآن)، فما الذي يستطيع أن يقوله أي كان لحزب الله بعد ربط المقدمة بالنتيجة، والبرهنة على صوابية القرار؟
• حقيقة الموقف السوري الثابت من المقاومة على الرغم من كلّ الذي حصل على سورية وفيها، وعلى الرغم من كلّ المعاناة والحصار والأوضاع المعيشية الصعبة التي ينتظر فيها الأميركيون وحلفاؤهم ان يتزلزل الموقف في سورية أو يتبدل أو يتغير، فواقع الحال يؤكد أن سورية ما تزال تحتضن فصائل المقاومة الفلسطينية، وما يزال موقفها راسخًا وثابتًا، وهي حتّى اليوم تُشكّل كما قال سماحة السيد: (ساحة الدعم والإسناد بتواصل حركات المقاومة كلّ في موقعه ومن خلال ظروفه وإمكانات هذه المعركة).
• ذروة البراعة والإبداع في دحض كلّ ما تم تسويقه من سرديات باطلة عن تخلي سورية عن المقاومة تجلى باستشهاد سماحة السيد حسن نصر الله بما قاله السيد الرئيس واعتماده على النص الحرفي لقطع الطريق على كلّ تأويل مزاجي قد يسوقه هذا الطرف أو ذاك، وما قاله الرئيس الأسد يتضمن: (... طالما أن الوضع لم يتغير والحقوق لم تعد لا للفلسطينيين ولا للسوريين، فلا شيء يُبدل موقفنا أو يزيحه مقدار شعرة، وكلّ ما يمكن لنا ان نُقدمه ضمن إمكانياتنا للفلسطينيين أو لأي مقاوم ضدّ الكيان الصهيوني سنقوم به دون أي تردّد، وموقفنا من المقاومة وتموضعنا بالنسبة لها كمفهوم أو كممارسة لن يتبدل، بالعكس هو يزداد رسوخًا، لأن الأحداث أثبتت أن من لا يمتلك قراره هو لا أمل له بالمستقبل، ومن لا يمتلك القوّة لا قيمة له في هذا العالم).
• الربط بين حقيقة الموقف السوري وما آلت إليه الأمور والتداعيات بعد ملحمة طوفان الأقصى، وبإمكان أي متابع موضوعي أن يتصور المشهد لو أن الحرب على سورية نجحت في تغيير الثوابت والمبادئ التي تحكم السياسة السورية، وهذا ما أكد عليه سماحة السيد بقوله: (..تصوروا لو كانت النتائج مختلفة وجاء 7 تشرين وطوفان الأقصى، لو كانت سورية اليوم في الموقع الأميركي، لو كانت سورية اليوم في الموقع الإسرائيلي كما أريد لها خصوصًا في جنوب سورية ماذا كان يمكن أن يكون حال لبنان؟ وحال المقاومة في لبنان؟ وحال كلّ جبهات الإسناد لفلسطين ولغزّة مع العراق ومع إيران خصوصًا؟).
طوفان الأقصى والعجز المركب لكيان الاحتلال
عنما يذكَر سماحة السيد بالواقع الذي كان يلف القضية الفلسطينية قبل السابع من تشرين الأول 2023، ويقارنه بما أنجزته المقاومة وما هي عليه القضية الفلسطينية فكأنه يقول: ما قبل الطوفان ليس كما بعده، ويمكن هنا الإشارة باختصار إلى أهم الجوانب التي تضمنها خطاب سماحته بهذا الخصوص، ومنها:
• تحقيق الهدف الأساسي للمقاومة باستعادة القضية الفلسطينية ألقها وحضورها الفاعل والرئيسي في جميع المحافل الإقليمية والدولية، وهذا ما أشار إليه سماحة السيد بقوله: (..إعادة إحياء القضيّة الفلسطينية وإعادة التذكير بالحقوق الفلسطينية، وإعادة تذكير بفلسطين المنسيّة، فلسطين المنسيّة بقدسها ومقدّساتها الإسلامية والمسيحيّة، والمنسيّة بغزّتها وضفّتها والـ48 المحتلّة، وشتاتها ومخيّماتها خارج فلسطين كانت منسيّة قبل 7 تشرين.. فلسطين التي كان بعض الحكّام العرب سيوقّعون حكم موتها من خلال اكتمال آخر مراحل التطبيع مع العدوّ الإسرائيلي والذي كان متوقعًا أن يحصل خلال أشهر)، فالهدف من طوفان الأقصى تم تحديده بدقة منذ البداية، وهو يتضمن: (إعادة فلسطين إلى العالم، إلى الذاكرة، إلى الوجدان، إلى الحياة، إلى المعادلات، إلى المعركة، إلى الميدان، إلى الإنجاز، إلى استعادة الحقوق، إلى خوض الشروط على العالم).
• فلسطين اليوم بعد دخول ملحمة طوفان الأقصى شهرها الثامن، لم تعد قضية منسية، بل هي اليوم (القضيّة الأولى في العالم، اسم فلسطين، والفلسطينيين، والشعب الفلسطيني، وأطفال فلسطين، ونساء فلسطين، واسم غزّة على كلّ شفة ولسان في كلّ أنحاء العالم... حقّانيّة الشعب الفلسطيني، مظلوميّة الشعب الفلسطيني اليوم يتحدّث بها كلّ العالم).
• بالمقابل كان الكيان الإسرائيلي في نظر العالم والمجتمع الدولي هو الدولة الديموقراطيّة الوحيدة في منطقتنا، واليوم (في الأمم المتحدة أكثر من 140 دولة تُطالب بوقف إطلاق النار ووقف الحرب، في الأمم المتحدة أكثر من 140 دولة تُطالب بإعطاء عضويّة كاملة لفلسطين ودولة فلسطين ومن يمثّل فلسطين، ويرفضها تسع دول، أميركا وبعض هذه الدول لا يسمع أحد باسمها)، وهذا ما أفقد مندوب الكيان أعصابه، فخرج وتهجم على المجتمع الدولي والأمم المتحدة، وقطع ميثاق المنظمة الدولية أمام الجميع، وهنا تبلور أهم مشهد إعلامي سياسي يعبّر عن صورة الانتصار للمقاومة الفلسطينية كما أوضح السيد نصر الله بقوله: (عندما رفع مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة صورة القائد الكبير الشجاع الأستاذ أبو إبراهيم يحيى السنوار حفظه الله ونصره الله، تُريدون أن تعرفوا من المهزوم ومن المنتصر؟ شاهدوا هذا المشهد، الغضب، الإحباط، اليأس في وجه مندوب الكيان "الإسرائيلي" في الأمم المتحدة وصورة السنوار المرتفعة أمام كلّ كاميرات العالم).
• الحديث عن المظاهرات الطلابية التي تعم الجامعات الأميركية والأوروبية وغيرها تأييدًا للقضبة الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني بإقامة دولته المستقلة، وافتضاح النفاق الغربي وأكاذيبه عن الحرية والديمقراطية وحق الناس في التعبير عن رأيهم وقناعاتهم، ويمكن باختصار شديد توصيف الحالة الراهنة اليوم كما قال سماحة السيد: (...اليوم العالم كله يتحدّث عن دولة فلسطينية ودولة للفلسطينيين وأنه لا حل بالمنطقة إلا بإقامة الدولة الفلسطينية، هذا الموقف اليوم في العالم يُرعب أول شيء نتنياهو وبن غفير وسموتريتش وحكومة العدوّ وكلّ الصهاينة، لأن الصهاينة أجمعين يُجمعون على رفض دولة فلسطينية، ويعتبرونها تهديدًا وجوديًا لكيانهم).
• بالمقابل كيان الاحتلال الذي كان ينظر إليه العالم على أنه واحة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، وأنه يمثل (الدولة التي تحترم القانون الدولي وتراعي الضوابط، الدولة التي تريد أن تعيش بسلام مع جيرانها، الدولة المحبّّة للسلام) واليوم الصورة على النقيض من ذلك: (...إسرائيل قاتلة الأطفال، قاتلة النساء، "إسرائيل" المستكبرة على المجتمع الدولي، على القرارات الدوليّة، على القوانين الدولية، على القيم الإنسانيّة، على القيم الأخلاقية، على كلّ ما هو خير وصحيح وحسن في هذا العالم هذه اليوم صورة "إسرائيل" في العالم. "إسرائيل" الكاذبة، المنافقة، المُدّعية، القاتلة، المجرمة، المتوحشة...).
• يختصر سماحة السيد المشهد الذي يحكمه الميدان وتداعياته بعدة نقاط أساسية، ومنها:
ــــ إجماع في كيان الاحتلال على الفشل بعد دخول ملحمة طوفان الأقصى الشهر الثامن، ولا أحد يتحدث عن الانتصار.
ـــ الفشل الإسرائيلي غير محصور بالعجز عن تحقيق الأهداف التي تم الإعلان عنها، بل بالمزيد من الخسائر الاستراتيجية، فـ"إسرائيل" التي تقدم نفسها على أنها أقوى دولة في المنطقة، وتدعمها أقوى دولة في العالم هي اليوم (دولة عاجزة وفاشلة وغير جديرة بالثقة، لا حكومتها ولا قيادتها ولا جيشها ولا أجهزتها الأمنية) وهذا ما يجب التوقف عنده مطولًا وتوضيح تأثيره الاستراتيجي داخليًا وإقليميًا ودوليًا.
ـــ أمام نتنياهو خياران لا ثالث لهما، فإما أن يُكمل أو يتوقف، فإذا توّقف ليس عنده خيار سوى العودة إلى الورقة التي وافقت عليها حماس بالنيابة عن الفصائل، وهذا هزيمة بكلّ ما للكملة من معنى، وإن أكمل فهو يُكمل في حرب استنزاف تأكله على المستوى البشري والأمني والاقتصادي والروحي والمعنوي والنفسي، وهو يفرض حربًا ستطول عليه أيضًا.
خاتمة:
يحتاج خطاب سماحة السيد لدراسات تحليلية مستقلة، لا بل يشكّل مادة غنية لكتابة الأطروحات العلمية "ماجستير ودكتوراه" ولا يمكن لمقال تحليلي أن يوفق بأكثر من ملامسة شواطئ هذا البحر الزاخر، فالقضية الفلسطينية اليوم استعادت زخمها وحضورها، والكيان "الإسرائيلي" ينتقل من إخفاق إلى إخفاق أكبر، وهو اليوم عاجز عن استعادة قوة الردع أو ترميمها، وهذه نتيجة يبنى عليها الكثير، وهذا ما أشار سماحة السيد حسن نصر الله بقوله: (هذه النتيجة السياسيّة الإعلامية الاستراتيجية ما كانت لتتحقق من خلال العمل الدبلوماسي والسياسي والإعلامي والعلاقات الدوليّة وجهود الفلسطينيين ومعهم كلّ العرب لو كان العرب موجودين، وكلّ الدول الإسلامية لو كانت مشاركة ما كانت هذه النتائج التي تحدثت عنها قبل قليل لتتحقق بعشرات السنين ولن أقول بمئات السنين، ولكن تحققت بفعل المقاومة والصمود والتضحيات والفداء، هذا أحد أوجه انتصار الدم على السيف).
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
29/11/2024