آراء وتحليلات
الدولة الجبانة
ماذا تحقق اليوم من طوفان الأقصى؟ ما هو المستقبل الذي ولد في المنطقة، وهو الآن يحبو ويتحرك وتضح قسماته وملامحه؟ إن أردنا تغيير الإجابات النمطية فإن ما حققه محور المقاومة، ببطولات هائلة غير مسبوقة، وبتضحيات غالية، ونفوس كريمة لا تعرف اليأس ولا تنزل على حكم الظلم، فإننا قد امتلكنا "وحدة الساحات". هذا المولود/ التسمية ليست لي، لكنّها لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، الذي أعتبر أن الأخطار الأمنية في المنطقة لم نشهدها منذ العام 1973، آخر حرب لجيوش عربية كبيرة ضدّ الكيان.
أزعم أن بلينكن لا يعرف أن المستقبل هذه المرة مختلف كليًا عما جرى قبل 51 عامًا، يومها كان الخونة يرتعون في القاهرة، ويجرّون دمشق إلى "حرب تحريك" لا "حرب تحرير". يومها كانت الساحة ممزقة بين السادات وفيصل من جهة، وكلاهما كان يبحث عن مجد شخصي لا مصلحة أمة، وبين قلعة دمشق التي وقفت عنيدة منيعة، واستمرت حتّى اليوم هي دولتنا العربية الوحيدة الخالصة الغالية. أما اليوم فقد تحول محور المقاومة من الحلم العربي إلى الواقع اليومي العربي، من اليمن إلى لبنان وسورية والعراق وإيران، هو الذي يقود مرحلة المواجهة، وتحت ظلال وارفة لقادة اختصهم الله بأن يكونوا أبطال يوم الفتح وساعة الفرج والنصر الموعود.
لكن على الجبهة الأخرى، هناك ما يجب أن يقال، ما هو ضروري جدًا. إن خذلان فلسطين ليس خذلانًا ولا خيانة لفلسطين فقط، لكنه خيانة لمصر ولغيرها، المصري الذي يقول إن فلسطين ليست قضية مصرية بالأساس هو خائن، وغبي، الحساب المادي - المنحط - يقول بجلاء إنه إن أرادت مصر الخروج من نفق التبعية للأميركي فإن عليها أولًا أن تكسر تعبيتها لنظام حكمها، وأن تقاوم وجود الكيان اللقيط على الأرض العربية، وأن تعود فلسطين لفلسطين.
المصلحة الوطنية المصرية الأولى، إن توفر نظام حكم وطني حقيقي، تقول إن مصر دون أمتها لا شيء، لا شيء بمعنى كيان تافه هش، لا تحافظ على استمراره إلا القروض والمعونات، وإنه إذا أرادت مصر الأمان فعلًا فهناك مع أمتها العربية. مصلحة مصر المباشرة والحقيقية هي أن تكون جزءًا من أمتها العربية، وليست جزءًا منفصلًا عنها، ليس ذلك حكم التاريخ والانتماء وحده، لكنّه حكم المستقبل قبله، فمصر القوية لا بد من أن تكون عربية، هذا كله إن أسقطنا اعتبارات الشرف والسيادة والكرامة.
مصر اليوم تفوقت على كلّ دول العالم في معدل تضخم الغذاء، وهو أمر للفقراء عظيم. طبقًا لبيانات البنك الدولي فإن مصر كانت الدولة التي حققت أعلى نسب تضخم في أسعار الغذاء عام 2023، بنسبة 36%، بينما لبنان الذي يتحمل جهد حرب إسناد للأخوة في غزّة وحصارًا أميركيًّا اقتصاديًّا وماليًّا خانقًا، وعدوانًا صهيونيًّا لم يتوقف، ويتكفل بإيثار ونفس عزيزة بالأشقاء المهجرين من سورية، قد زاد فيه المعدل 31%، وبفوارق كبيرة جاءت رواندا وتركيا والأرجنتين وسيراليون، بنسب 15% و14% و12% و12%، على التوالي، هذا الرقم يقول حقيقة واحدة، إن ثمن الكرامة فادح لكن ثمن الذل أفدح.
وإلى معرفة حدود ثمن الذل الذي تعيشه القاهرة وستعيشه وتدفعه، نأتي للأميركي سكوت ريتر، ومن العوامل العديدة التي تجعل من ريتر محللًا عبقريًا هو كسره للقيود، ووضوح رؤيته الشديد، وحرية أفقه، بالإضافة لذكائه وألمعيته. الرجل منذ أطل عبر مواقع التواصل الاجتماعي في مقاطع مصورة قصيرة مع انطلاق الحرب الروسية في أوكرانيا وهو يثبت في كلّ مرة أسبقيته، حتّى جاء طوفان الأقصى، وبدأ يحمل لواء الشرف كمدافع مكلف بالقضية الفلسطينية، وللعجب فإن تعليق "ريتر" على خطاب سماحة السيد حسن نصر الله، الأول بعد الطوفان في الثالث من تشرين الثاني، كان أبلغ وأعمق من ترهات كثير من العرب ممن اعتبروا الخطاب أقل مما انتظره هؤلاء المنتفخون غرورًا وزهوًا فارغًا، بينما اعتبره الأميركي الذكي درسًا لفهم "استراتيجية التصعيد"، وقال منذ 7 شهور: "إنهم يهينون الجيش "الإسرائيلي" بشكل مستمر، يوميًا على الحدود.. حماس لديها أنفاق، لكن حزب الله لديه أنفاق أفضل وأطول وأعمق، وعندما يقرر حزب الله أخذ شمال "إسرائيل" فلن يستطيع الجيش فعل شيء لمنع ذلك".
قرر سكوت ريتر، ضابط الاستخبارات الأميركي السابق فتح واحدة من الصفحات العربية السوداء الكئيبة الملعونة، بحق ما يجري اليوم في فلسطين، قائلًا إن "مصر أثبتت أنها أمة جبانة بلا قيمة"، وقال إنه لا يجد من الكلمات ما يعبر به عن احتقاره لحالتها، "إخوانكم العرب والفلسطينيون يذبحون وأنتم تشاهدون ولا تفعلون أي شيء. كانت أمامكم الفرصة ولديكم الإمكانيات، لكن مصر دولة جبانة مدمنة على تلقي المساعدات والمنح الأميركية".
أضاف ريتر أن مصر "كان بإمكانها تحريك عدد من فرقها العسكرية إلى سيناء للإيحاء بوجود إرادة لفعل ما يوقف الجريمة الصهيونية في فلسطين"، خصوصًا أن "إسرائيل" "تنتهك القانون الدولي وتنتهك اتفاقية "كامب دافيد" وتنتهك اتفاقية ممر فيلادلفيا بين غزّة ومصر. خمس فرق مدرعة لم يكن ليوقفها شيء سوى الأسلحة النووية، لكن "تل أبيب" راهنت على أنهم لم يتحركوا لأنهم أدمنوا المعونات الأميركية، هذا الموقف يقول للعالم كله لا يجب أن تثق بأميركا، وإذا لم تدرك عقولكم ذلك حتّى الآن فهذا بحد ذاته عار".
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
29/11/2024