آراء وتحليلات
مصر.. حقل ألغام ينتظر العابرين في طريق "كامب ديفيد"
مع كل تطلّع لدور عربي فاعل، تتركز الأنظار على بؤرة كانت مركزًا للمقاومة ودعمها، وقادت لسنوات طويلة الكفاح العربي وألهمت حركات التحرر الوطني العالمية، وهي مصر، لا سيما عندما كان اسمها "الجمهورية العربية المتحدة"، ثم جاء من أسماها "جمهورية مصر العربية" بلقب موجه ومقصود ليقدم المصلحة الداخلية على الانتماء العربي، ليثبت الزمن أن المقصود كان مصلحة نخبة حاكمة ضيقة تم توارثها وسقطت معها مصالح مصر وتأثرت معها بشدة مصالح العروبة وقضيتها المركزية.
ومنذ كامب ديفيد، سقطت الرهانات على الأنظمة التي شكلت ورثة للنخبة الضيقة المستفيدة من معاهدة السلام المزعومة والتي استقت شرعية حكمها من الولايات المتحدة والانتماء للمعسكر الغربي بشروطه التي يفرضها، والتي تتمحور حول ملفين بارزين لا تسمح أميركا بالخروج عنهما، وهما:
1- اقتصاد السوق الحر والانتماء للمدرسة النيوليبرالية بما تفرضه من معوقات لأي استقلال اقتصادي يقود بالضرورة لاستقلال القرار السياسي.
2- أمن "اسرائيل"، وهو ما يشكل سقفًا لأي طموحات عسكرية أو تحالفات أو حتى علاقات دبلوماسية مع حركات أو دول أو حتى شخصيات عالمية.
وبقيت الرهانات دومًا على عاملين:
أولهما، الشعب المصري الرافض بأغلبيته الساحقة للتطبيع، أملًا في نجاحه وتجاوزه للعجز في تغيير الأنظمة تغييرًا جذريًا باتجاه الاستقلال الوطني رغم تعاقب الأسماء والانتماءات، والذي قاده لصمت وسلبية واحباط.
وثانيهما: الجيش المصري نظرًا لعقيدته العسكرية وتاريخه في الصراع، أملًا في عدم تأثير الاتفاقيات السياسية على هذه العقيدة وباعتباره ممثلًا للشعب وجنوده ينتمون لهذا الوجدان الشعبي.
ولا شك أن سبب استمرار هذه الرهانات يكمن في حوادث تبدو فردية ولكنها تعكس المخزون الكامن في الوجدان المصري، وهي حوادث متلاحقة بمراحل زمنية متباعدة، وهو ما يؤكد رسوخها واستمراريتها، مثل الشهيد سليمان خاطر والشهيد محمد صلاح ومؤخرًا الشهيدين على الحدود في رفح، وكذلك الشرطي الذي أطلق النار على الوفد الصهيوني السياحي، وما تبديه جماهير الكرة في الملاعب رغم تحذيرات الأمن، وكلها اشارات على وجود القضية في الوجدان المصري وتنتظر فقط فرصة سانحة للتعبير عن نفسها.
والعامل المشترك بين جمهور الكرة والجنود هو العثور على الفرصة، فبينما عثر الجمهور على فرصة للتجمع دون قمع، فقد قام باستغلالها، وبينما عثر الجنود على فرصة للسلاح الشرعي ووجد أمامه العدو، فقد قام باستغلال الفرصة.
ويبدو أن خطط الأنظمة تتمحور حول حرمان الجماهير والجنود من فرصة التعبير والترجمة لمكنون المقاومة والانحياز الوجداني للثوابت وخاصة للقضية الفلسطينية.
وهنا لا بد من التدقيق في بعض العناوين لكشف مكامن الخطأ والخطر:
أولا: دلالات مصطلحات بيان القوات المسلحة المصرية:
استخدم بيان الجيش مصطلح عنصر تأمين، بدلًا من استخدام جندي أو بطل، رغم أن بيانات سابقة استخدمت مصطلح الشهداء والأبطال في المعارك مع الارهاب، والأولى هنا استخدامه مع حماة الحدود ومن يدافعون عنها ضد الانتهاكات الصهيونية.
وغالبًا ما يستخدم مصطلح "عنصر" في بيانات الجيش للحديث عن أفراد عير نظاميين، مثل "عناصر المقاومة" أو "عناصر ارهابية"، وهنا يبدو استخدام المصطلح للتنصل من سلوك الجندي والتحرر من أي التزام بثأر أو رد على استشهاده.
ثانيًا: منع إظهار التفاعل الشعبي:
يبدو الأمر غريبًا ولا يتسق مع دعاوى مصر المعلنة من رفضها للممارسات الاسرائيلية، حيث ترفض إظهار الضغط الشعبي وترفض استخدام هذه الورقة الضاغطة وهو ما يفقد النظام مصداقيته. ولعل خوفه من التظاهرات وتحولها لفوضى هو أمر غير مبرر، حيث خرجت تظاهرات كبيرة في بداية الحرب ولم ترفع شعارًا معاديًا للدولة بل رفعت شعارات مؤيدة للمقاومة ولحزب الله "يا نصر الله يا حبيب اضرب اضرب تل ابيب"، وبالتالي فإن منع النظام لهكذا تفاعل هو عداء للمقاومة وليس خوفًا من فوضى.
ثالثًا: تسييد مفهوم خلود اتفاقية كامب ديفيد:
من الخطاب الرسمي المصري هناك تقديس غير مفهوم وغير مبرر لاتفاقية "السلام" وكأنها قدر أو قضاء محتوم، رغم كل الانتهاكات الصهيونية وأحدثها ما يتعلق بالتواجد في محور فيلادلفيا بل وقتل جنود مصريين.
ومنذ الأيام الأولى للرئيس المصري وهو يكرس أن "اتفاقية السلام" باتت راسخة في الوجدان المصري، وهو أمر غير صحيح.
رابعًا: وجودية المعركة وتناقضها مع السلوك المصري
لا شك أن طبيعة المعركة الراهنة من حيث كونها معركة وجودية للصهاينة، تتناقض مع السلوك المصري الرسمي الذي يسعى دائمًا للعب دور الوساطة والنأي بنفسه عن التورط في الصراع، ولا شك وأن معركة رفح ونوايا نتنياهو المفضوحة للتهجير تشكل حرجًا كبيرًا لهذا النهج المصري ونهاية للطريق المفضل له، والدخول في طريق وعر لا يسمح بالسير الهادئ، فإما الصدام مع العدو ورعاته، وإما الخيانة العلنية والتواطؤ مع العدو، ولعل استمرار العدوان والمجازر برفح يعجل كثيرًا من الدخول لهذا الطريق.
حقل الألغام في مصر
مما سبق، يمكن تبيّن حقل الألغام الموجود بمصر، حيث تتناقض الممارسات الرسمية مع الوجدان الشعبي، وتهتز هيبة الجيش بتجاوزات الكيان المباشرة مع الجنود المصريين، وبانتهاك العدو لورقة التوت الممثلة في اتفاقية دولية بدا النظام المصري هو الحريص الوحيد عليها وكأنها المهرب من أي مواجهة عملية مع الكيان.
ولا شك أن حقل الألغام هذا لا يشكل خطرًا على النظام الرسمي في مصر فقط، بل يشكل خطرًا على الصهاينة وعلى أمن الكيان، لأنه قد يفرز أوضاعًا وتغيّرات دراماتيكية متسارعة، حيث مخزون الكبت الشعبي قابل للاشتعال، ناهيك عن هيبة الجيش المصري وهي هيبة يستمد النظام شرعيته من وجودها، واهتزازها يشكل خطورة على أمن النظام.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024