آراء وتحليلات
أوكرانيا: التصعيد الغربي والتهديدات الروسية
جاء ردّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سريعًا وقويًّا على الدعوات التي أطلقها العديد من القادة الأوروبيين، والتي تدعو أو تشجع أو تجيز لأوكرانيا استهداف الأراضي الروسية بواسطة الأسلحة الغربية التي تقدم لها. إذ قال بوتين: "يجب على ممثلي دول حلف الناتو، وخاصة في أوروبا، أن يكونوا على دراية بما يلعبون به، ويجب أن يتذكروا أن مثل هذه الدول خاصة ذات المساحة الصغيرة والكثافة السكانية العالية. ويجب أن يحسبوا حساباتهم بشكل جيد، ويجب عليهم أن يضعوا هذا العامل في الحسبان قبل الحديث عن ضرب عمق الأراضي الروسية".
شهدت الأشهر الأخيرة قيام دول الناتو بتزويد أوكرانيا بالعديد من صنوف السلاح الغربي القادر على الوصول إلى داخل الأراضي الروسية، وبالإضافة إلى سلاح الطائرات المسيّرة، فقد شملت تلك الأسلحة العديد من الصواريخ المتوسطة والطويلة المدى التي حصلت عليها أوكرانيا.
في نهاية فبراير/شباط الفائت؛ قال الرىيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في ختام مؤتمر دولي لدعم أوكرانيا في باريس، إنه تقرر إنشاء تحالف لتوجيه ضربات في العمق الروسي ولتزويد أوكرانيا بـصواريخ وقنابل متوسطة وطويلة المدى. وبعد ثلاثة أشهر من ذلك؛ عاود ماكرون، وخلال مؤتمر صحفي مع المستشار الألماني أولاف شولتز في برلين، للقول: "نعتقد أنه يتعيّن علينا السماح لهم بتحييد المواقع العسكرية التي تُطلق منها الصواريخ، ومن حيث تتعرض أوكرانيا للهجوم".
كلام ماكرون دفع صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية للقول إنّ الخط الأحمر الذي رسمه الغرب لحدود استخدام الأسلحة التي يقدمها لأوكرانيا ضدّ روسيا بدأ يتلاشى.
وعلى الرغم من ادعاء واشنطن بأن موقفها لم يتغير حول هذا الموضوع، وهي لا تؤيد استهداف الأراضي الروسية بواسطة الأسلحة المقدمة من الغرب لأوكرانيا، فهذا الموقف يحمل الكثير من التضليل المكشوف على أساس أن القادة الغربيين، وعلى رأسهم ماكرون، لم يكونوا يومًا سوى دمى متحركة بأيدي واشنطن، وخاصة منذ اندلاع النزاع في أوكرانيا. ولعلّ أوضح دليل على النفاق الأميركي يتمثل بما قاله الأمين العام لحلف الناتو "ستولتنبرغ"، في مقابلة مع شبكة "سي إن إن" منذ أيام، بأنه وبموجب القانون الدولي يحق لأوكرانيا الدفاع عن النفس ليشمل ضرب أهداف خارج أوكرانيا بما في ذلك الأهداف العسكرية المشروعة في روسيا. والمعروف عن "ستولتنبرغ" بأنه من غير الممكن أن يجرؤ على هكذا تصريحات إلا بإيعاز من واشنطن التي تقود حلف الناتو وتهيمن عليه، هذا بالإضافة إلى أن كييف استخدمت السلاح الأميركي في هجمات عدة نفذتها داخل الأراضي الروسية وخاصة الصواريخ.
في هذا الإطار، من المهم الإشارة إلى أن التصريحات الأخيرة لكل من الرئيس الفرنسي والأمين العام لحلف الناتو جاءت بعيد ثلاث عمليات استهداف نفذتها القوات الأوكرانية داخل الأراضي الروسية على أهداف عسكرية شديدة الأهمية، كُشف عنها؛ وشملت:
• في 23 أيار/مايو كُشف عن أن هدف الهجوم على شبه جزيرة القرم كان مركز اتّصالات الفضاء السحيق المشارك في إدارة نظام الأقمار الصناعية GLONASS. وبحسب ما ورد تعرضت المنشأة الواقعة بالقرب من مدينة ألوشتا لأضرار بأربعة صواريخ ATACMS أميركية الصنع.
• في 24 أيار/مايو نفذ الجيش الأوكراني ضربات بطائرات من دون طيار على رادار Voronezh - DM الاستراتيجي بعيد المدى فوق الأفق في أرمافير في منطقة كراسنودار. وبحسب ما ورد تضررت هوائيات الرادار.
• في 26 أيار/مايو، وقع هجوم آخر على نظام الإنذار الصاروخي الروسي بواسطة طائرة مسيّرة مجهولة الهوية لكنّه انتهى بالفشل، وذلك بالقرب من مدينة أورسك، حيث توجد محطة رادار أخرى من نوع Voronezh - M، وهي تسيطر على القطاع الممتد من صحراء تاكلإمكان إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط.
ومن الملاحظ بأنه ليس هناك علاقة مباشرة لهذه المنشآت العسكرية المستهدفة بالعمليات العسكرية الجارية في أوكرانيا، وهي تمثل جزءًا من نظام التحذير من الهجوم الصاروخي الذي يهدف إلى اكتشاف إطلاق الصواريخ النووية الباليستية، وبالتالي فهي تشكّل أحد أركان الأمن الاستراتيجي الروسي والدفاع الفضائي على مسافات بعيدة تمتد من غرب أوروبا إلى شرق آسيا، ومن القطب الشمالي إلى البحر المتوسط والشرق الأوسط والمحيط الهندي.
تشير طبيعة المنشآت المستهدفة إلى أن نظام كييف ومن خلال استخدامه للسلاح الغربي لتنفيذ عمليات هجومية على منشآت الأمن الاستراتيجي والردعي، والتي تستخدمها روسيا لتحصين نفسها من أي هجمات محتملة من خصومها في خلف الناتو وخاصة الولايات المتحدة، إن هذا النظام ينفذ أوامر أميركية ناتوية بحتة، وأن - أي نظام كييف - ليس سوى دمية أميركية يجري استغلالها لإضعاف روسيا عسكريًا، وهو ما أكدت عليه تصريحات المسؤولين الروس في أكثر من مناسبة.
بالعودة إلى تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فقد بات من المعلوم السبب الحقيقي لما تضمنته من تهديدات صارمة للغرب، مع العلم بأن تلك التهديدات لم تكن الردّ الوحيد لموسكو على مغامرات الغرب الجماعي، وإن كانت تشكّل الخطاب الأشد لهجة ووضوحًا خاصة وأنه صادر عن الرىيس بوتين شخصيًا.
وسبق لروسيا أن أعلنت بشكل واضح أنها ستقوم بإنشاء منطقة عازلة داخلة الأراضي الأوكرانية تمتد حتّى نهر الدنيبر لحماية أراضيها من الهجمات التي تتعرض لها، وحمل هجوم خاركوف رسالة واضحة على جدية روسيا في هذا الخيار. كما سبق لروسيا وقبل إطلاق هجوم خاركوف أن أجرت تدريبات على استخدام الأسلحة النووية التكتيكية، والذي كان بمثابة ردّ على دعوات الغرب لإرسال قوات على الأرض إلى أوكرانيا، حيث جرى الحديث عن خطط لإرسال 100 الف من قوات الناتو إلى شرق الدنيبر.
وأيضًا شكلت الزيارة التي قام بها الرئيس الروسي إلى بيلاروسيا مناسبة لتفعيل واحد من أهم الردود الروسية على الغرب الجماعي؛ حيث ناقش مع نظيره البيلاروسي لوكاشينكو إجراء مناورات مشتركة بالأسلحة النووية التكتيكية.
أخيرًا، ممّا لا شك فيه أن بوتين المنتصر في الميدان، والذي يشهد تقدمًا ملحوظًا ومستمرًا للقوات الروسية، يدرك جيدًا بأن الغرب يسعى للزج بأوراق تهديد جديدة تطال الداخل الروسي، وتستهدف الأمن الاستراتيجي لروسيا بهدف إحداث اختراق في أركان هذه المنظومة وذلك عبر الدمية الأوكرانية. وهو ما يعني بالنسبة إلى موسكو تجاوزًا لكل الخطوط الحمر مهما تسترت واشنطن وحلفاؤها خلف شعارات دفاع أوكرانيا عن نفسها، ولهذا فإن بوتين كان واضحًا في خطابه في ذكرى النصر على النازية عندما قال صراحةً:
"روسيا ستبذل قصارى جهدها لمنع نشوب صراع عالمي، ولكن في الوقت نفسه لن نسمح لأي شخص بتهديدنا.. قواتنا الاستراتيجية في حال استعداد قتالي دائم".