آراء وتحليلات
المقاومة نموذج الوحدة الوطنية في لبنان
لا يختلف عاقلان على أن المرحلة التي يمر بها لبنان ومنطقة ما يسمّى "الشرق الأوسط"، بل والعالم برمّته، هي مرحلة فائقة الحساسية من النواحي السياسية والأمنية والاقتصادية وغير ذلك من التطوّرات المتسارعة التي تهدّد الاستقرار الداخلي للأمم والشعوب ودولها وأنظمتها.
وإذا انطلقنا من الدائرة اللصيقة باتجاه الدائرة الأوسع، نجد أن غالبية الحوادث المهمّة التي تدور رحاها على الأرض تتمحور حول قلب العالم، أي فلسطين، حيث تتصارع القوى الكبرى من أجل نيل نفوذ أو تثبيت هيمنة أو تطبيق مشروع، ولم تكن لهذه الأهمية أن تتعملق في شكلها ومضمونها وأبعادها وتداعياتها لولا الزلزال الذي أحدثته عملية طوفان الأقصى التي أعادت فلسطين إلى واجهة القضايا الجوهرية، فالأمر لا يتعلّق بمسألة احتلال وتحرير واسترجاع حقوق، أو حدث داخلي محصور في قطعة جغرافية مطوّقة بمختلف ألوان الإبادة البشرية، بل هو فوق كل ذلك وفي الأساس يجسّد قضية صراع وجودي، ومواجهة شاملة الأبعاد تأخذ نتائجها المنطقة والعالم – أيًا كان مآل هذه النتائج – إلى مرحلة جديدة من تشكيل النظام العالمي.
اللعب على المكشوف
لم يسبق في أي حقبة من القرن العشرين أن ذهبت الأمور في الصراع الدولي إلى هذا التعقيد في الملفات الشائكة، ولئن تتشابه المقدّمات السياسية والميدانية في ما سبق الحربين العالميتين الأولى والثانية مع ما يجري اليوم من إرهاصات، لكن الفارق أن فلسطين لم تكن آنذاك قد تبلورت كقطب صراع في المنظور الجيوستراتيجي باعتبار أن الكيان المؤقت لم يكن قد أرسى دعائمه بعد، ولم تكن أجندة أهداف القوى الاستعمارية قد تبلورت سوى في العناوين الكبرى. أما اليوم فكل شيء تقريبًا بات واضحًا عند الكلّ وبات "اللعب على المكشوف" كما يقال.. صراع أقطاب دولية للسيطرة على العالم وثرواته واستثمار مواقع الاستهلاك فيه، حرب شرسة حول مصادر الطاقة ومواردها، سباق محموم للتحكّم بالممرات البحرية بكونها شرايين التجارة العالمية، مشاريع اقتصادية ذات أبعاد اجتماعية للعبث بالتوازن البشري والإنساني.. عناوين كبرى تشكّلت بفعل التطوّرات التي بدأت تتفجر صواعقها منذ العام 1948 لتصل الأمور اليوم إلى تشكّل خارطة جيوسياسية تقسم العالم إلى معسكرات متعدّدة في الهوية والانتماء.
فرّق تسد
كما فلسطين كذلك لبنان الذي يقع في وسط ساحة الصراع الدولي بسبب موقعه الفريد المتلاحم مع القضايا كلّها، وغير المنعزل أصلًا عمّا كان مرسومًا للمنطقة منذ ما قبل القرن الثامن عشر، حيث كان الاحتلال البريطاني خصوصًا "يبدع" في تسعير الخلافات والصراعات بين المكوّنات الشعبية بخلفيات مذهبية وطوائفية على قاعدة "فرق تسد"، وصولًا إلى رسم خارطة التقسيم الاستعماري وفق اتفاقية سايكس – بيكو. كان يراد للبنان بموجب ترسيم حدوده الجغرافية وتحديد دوره السياسي أن يكون بمنأى عن أي تطوّر لاحق متعلّق بفلسطين، مع ما رافق هذا المسعى من محاولات عزل لباقي ما كان يسّمى "دول الطوق"، وصولًا إلى تمهيد الطريق أمام إنشاء "إسرائيل" ككيان واقع ومفروض وتسويقه داخل النطاق العربي والإسلامي.
مشروع الهولدنغ الأمريكي
وصل الصراع اليوم إلى مستوى عالٍ جدًا من الخطورة على مستقبل المنطقة، لا سيّما بعد أن فشلت الإدارة الأمريكية في تطويع لبنان الدولة والمقاومة، ترهيبًا وترغيبًا، وإخضاعه لمنظومة التطبيع والانخراط في مشاريع التسوية، والتخلّي عن سيادته لصالح العدو الصهيوني، كما لو أن المنطقة عبارة عن شركة "هولدنغ" أمريكية تحتل فيها "إسرائيل" موقع الإدارة والتحكم، والدول فيها أعضاء يأتمرون بما تقرّره هذه الشركة وتنفّذ مشاريعها. ومن الطبيعي أن يفرض هذا الفهم لطبيعة الصراع ترجمته في القول والفعل على مجمل مواقف وتحركات الدول والجهات المعنية، ومن هنا نقدّر اصطفاف دول وحركات محور المقاومة على ضفة الرفض والمواجهة مقابل دول وحركات المحور الأمريكي.
مطبّعون لبنانيون!
وإذا كانت الدول العربية المنضوية في المحور الأمريكي تسوّغ انزياحها المريب في ضرب القضية الفلسطينية خضوعًا أو طمعًا أو نتيجة حسابات شخصانية ومنافع مالية وتجارية، إلا أن ما يدعو للأسف والاستغراب أن بعض الشخصيات والجهات في لبنان قد انزاحت هي الأخرى إلى هذا الاتجاه، لا بل وصلت إلى حد جرأة تقيؤ مواقفها القديمة من قبيل طرح مشروع الفدرلة والتقسيم تارة، ومن قبيل الذهاب إلى توقيع "سلام" مع الكيان الصهيوني تارة أخرى انسياقًا مع التوجّه العربي الذي يُروّج له اليوم بذريعة وقف العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. وهي ليست طروحات مستجدّة بقدر ما هي استجابة موجّهة تخدم السياق التطبيعي مع العدو الذي أمعن في استباحة الأمن والسيادة في لبنان، وكان لهؤلاء في مراحل سابقة دور مساهم في تكريس هذه الاستباحة من منطلقات مناطقية وطائفية بغيضة.
خطاب التقسيم والفدرلة
أمام هذه الموجة من الترويج للخطاب الأمريكي بذريعة تحييد لبنان عن أتون الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، يبرز سؤال: ما الخانة التي يصنف بها هؤلاء "إسرائيل"؟! هل هي عدو أم صديق أم حليف؟! وهل اللبنانيون الذين عانوا وما يزالون من عدوان هذا الكيان الإرهابي هم مواطنون في عرف هؤلاء أم لاجئون طارئون على الوطن؟! ألا يستوجب الشعور بالمواطنة من هؤلاء أن يقفوا إلى جانب إخوانهم اللبنانيين وتدعيم صمودهم في مقاومة المحتلّ؟! ولو اعتبرنا أن المقاومة الإسلامية انساقت وراء خطاب التقسيم والفدرلة والطائفية، فلماذا دفعت وما تزال الأثمان الباهظة البشرية والمادية من أجل الدفاع عن لبنان وسيادته، وتلاحمت مع الجيش اللبناني في هذا السياق ضد الاحتلال والتكفيريين وحماية الناس والشعب؟!
توحيد الجبهة اللبنانية
لم تنطلق المقاومة الإسلامية في أي ظرف وفي أي زمن من منطلقات طائفية أو مناطقية، ولم تحتكر فعل المواجهة الذي سبقتها إليه وتشاركها فيه حركات المقاومة الوطنية، بل كانت وجهتها الأولى وهدفها الأساسي مقارعة المحتل وتحرير الأرض لحماية لبنان واللبنانيين بمختلف مشاربهم وألوانهم وانتماءاتهم الدينية والسياسية والجغرافية، ونجحت في ذلك على مدار سنوات الصراع، وهزمته وفرضت عليه الانسحاب الذليل، وأسهمت في تحصين القرار اللبناني، وهي ذاتها المنطلقات التي تعتمدها المقاومة في جبهة إسناد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وتسلك في ذلك اتجاهاً استباقياً يحمي لبنان من أي عدوان قد يرتكبه العدو تنفيذاً لمطامعه التاريخية في بلدنا. لذا كان حريًا بالمنتقدين المشوّشين أن ينضموا إلى جبهة المواجهة – في الحد الأدنى بالقول والموقف – بدل أن ينساقوا وراء شعارات مناطقية وطائفية بالية لا تؤدي إلا إلى الإمعان في توهين السيادة والقرار في لبنان، أما إذا ما اعتبرنا وجود نقاط خلافية داخلية ضيقة فهذا لا يفسد في الوحدة الوطنية قضية، فالعدو واحد والخطر الداهم واحد، ولا بد أن يكون القرار واحداً ليكون لبنان قوياً وحراً وسيداً ومستقلاً بمقاومته وجيشه وقراره السياسي والوطني الجامع.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024