معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

الانتخابات الرئاسيّة الإيرانيّة وثوابت السياسة الخارجيّة
10/06/2024

الانتخابات الرئاسيّة الإيرانيّة وثوابت السياسة الخارجيّة

أرسل مجلس صيانة الدستور الإيراني الأحد 9 حزيران/يونيو 2024 إلى وزارة الداخليّة قائمة بأسماء المرشّحين المحرزة أهليتهم (6 مقبول، 14 مرفوض) إلى انتخابات رئاسة الجمهوريّة (الدورة الـ14). على أن تعقد 5 مناظرات يناقش خلالها المرشّحون للرئاسة القضايا الأساسيّة في إيران، قبل خوض الانتخابات وتحديد الشخصية التي تخلف السيد الشهيد إبراهيم رئيسي في رئاسة الجمهوريّة، وبالتالي السلطة التنفيذيّة الإيرانيّة. وهذا برهان جديد على فعاليّة المؤسّسات في ممارسة وظائفها وفق هندسة نظامها السياسي والتزامها مبدأ السيادة الشعبيّة الدينيّة ومنطقها في تداول الصلاحيّات والمسؤوليّات والخدمة.

من المعلوم، أنّ الرئيس الإيرانيّ القادم سيواجه تحدّيات كبيرة، على رأسها تحدّيان كبيران:

-الأوّل: ما يتصل بشؤون إيران الداخليّة، وتحديدًا الملفّات الضاغطة على الشعب الإيراني اقتصاديًّا ومعيشيًّا بفعل الحصار والعقوبات.
-الثاني: السياسة الخارجيّة والعلاقات الدوليّة والإقليميّة.

من المفيد الخوض في العوامل الداخليّة والخارجيّة، وكذلك بالأسباب المباشرة وغير المباشرة، للوقوف عند الأزمات وحلولها بمقاربة شاملة وعادلة، إلا أن ذلك يبقى في عهدة القائمين على الأمور بمواقع السلطات المختلفة ومراكز الأبحاث والدراسات وكذلك في كلمة الشعب على ضوء بصيرته وتطلّعاته.

بينما لا يمنع ذلك، من التركيز على أحد الميادين الأساسيّة وهي "الدبلوماسيّة"، بوصفها نقطة تقاطع المقاربات والخيارات وآفاق الحلول من جهة، فتبتعد عن الشؤون الداخليّة الإيرانيّة، حيث تترك لأهل مكّة الدراية بِشِعابِها وتَشَعُّباتِها من جهة أخرى مقتصرةً على تحدّي السياسة الخارجيّة. لذا تقتصر هذه المطالعة على الاقتراب من أحد وظائف النظام المركزيّة في سياق مواجهة الاستحقاقين أعلاه، وبوصفها مسألة أساسيّة عند كل استحقاق انتخابي رئاسي أو برلمانيّ وعند كلّ جولة تفاوض في ملفّات حسّاسة وما يرتبط وثيقًا بقضايا المنطقة، فيطرح السؤال نفسه عن الدبلوماسيّة الإيرانيّة وموقعها ودورها في سياستها الخارجيّة وشؤونها الداخليّة.   

الانتخابات الرئاسيّة الإيرانيّة وثوابت السياسة الخارجيّة

"الدبلوماسيّة" في الجمهوريّة الإسلاميّة: نصف النظام

تعتبر الدبلوماسيّة في جمهورية إيران الإسلاميّة أداةً فاعلة للحفاظ على النظام السياسيّ وتعزيز قوّته بما يضاهي وظيفة الأجهزة المعنيّة بالحفاظ على الأمن الوطنيّ، حيث تشكّل السياسة الخارجيّة والجهاز المشرف عليها نصف النظام السياسيّ.

انطلاقًا من ذلك، تسعى الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة إلى إقامة علاقات سليمة لا سيّما مع دول المنطقة العربيّة والإسلاميّة، وكذلك مع الدول التي تمتلك تأثيرًا كبيرًا على الساحة الدوليّة دون مجاملات تجعلها خاضعة لشروط مسبقة تتجاوز القيم والمبادئ التي تؤمن بها.

خلال السنوات الثلاث الأخيرة، تطوّرت الدبلوماسيّة والحركة الإيرانيّة في الخارج ‏عبر إعطاء ‏الأولويّة لدول الجوار، ودول الشرق (روسيا والصين) دون قطع العلاقة مع الغرب، بل استطاعت الحفاظ على علاقاتها معه ضمن مستوى معيّن، والدخول في منظّمات دوليّة مع الحفاظ على السيادة والاستقلالية والحريّة، وعلى مصالحها والالتزام بثوابتها الأساسيّة منذ بداية تأسيسها لا سيّما الالتزام الواضح بالقضيّة الفلسطينيّة وحركات المقاومة عبر توفير كافة أشكال الدعم والمساندة المعنويّة، الدبلوماسيّة، السياسيّة، الماليّة، والعسكريّة (السلاح، الخبرة والتجارب، التدريب، ‏تطوير القدرات،...).

تعمد إيران الإسلاميّة -على الدوام- إلى إيجاد نقاط مشتركة بالمقدار الذي ينسجم مع مصالحها الوطنيّة ووفق المستوى المطلوب، وليس بأي ثمن كان. وترى أن مصالحها الوطنيّة بحد ذاتها هي إحدى القيم المعنويّة المشتقّة من المبادئ التي تؤمن بها. لذلك لا ترى وجودًا لـ"الكيان الصهيوني" أصلًا، فوجوده غير شرعي، وعدوّ مؤكّد يعمل على خلق التوتّر والتهديد الدائم لوجود قوّة إسلاميّة ساعيًا للقضاء عليها. لذلك تصرّ بما لا يقبل الجدل، بأنّه لا يمكن التهاون إزاءه أو العمل معه بتراخي. كذلك، لا ترى أن القضيّة مع الولايات المتحدة الأميركيّة هي مجرّد إزالة التوتّرات، بما أنّ سياسة الحكومة الأميركيّة الاستكباريّة تهدف إلى:

1. التخلّص من النظام الإسلاميّ بحدّ ذاته.
2. نفي صفة النموذجيّة والاقتدار عن النظام الإسلاميّ في الساحة السياسيّة الدوليّة.
3. تضييق الخناق على "الجمهورية الإسلاميّة" نتيجة عدم تبعيتها للإرادة والإدارة الأميركيّة المهيمنة على العالم.
4. إشغال إيران بالفتن والأزمات الداخليّة وتعميق التناقضات الداخليّة واختراقها بالعملاء والجواسيس.
5. تصفية العلماء والقادة الإيرانيّين من ذوي النفوذ والتأثير في اقتدار الدولة ومؤسساتها العلمية والتقنيّة والعسكريّة والأمنيّة.
6. استهداف المنشآت الحسّاسة لتعديل سلوك النظام السياسي الإيراني أو تأخير عجلة التطوّر أو لي إرادته في التفاوض.   

"الجهاد الدبلوماسي" والتدبير لا الدبلوماسيّة الانفعاليّة

اعتمدت الجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة "الجهاد الدبلوماسي" نهجًا واضحًا ودقيقًا في السياسة، فالدبلوماسيّة بالنسبة لها بمنزلة الحرب في الميدان. وفي الحرب صراعٌ وكسب نقاط، فمن يغفل للحظة عن الرؤى وسيناريوهاتها ومجريات الأمور فإنّه سيتلقّى صفعة. ليس عالم الدبلوماسيّة بـ"فلتتغاضَ هذه المرّة لنرى ما سيحدث لاحقًا" بل هو عالم الأخذ والرد، واضرِبْ وتلقّ الجواب. لذا، قد يبدو هذا الأمر سهلًا في بعض الأماكن، إلّا أنه صعب للغاية في أماكن أخرى.

لذلك، يحافظ المفاوض في الجمهوريّة الإسلاميّة على هويّته ومبادئه في مواجهة الأعداء والقوى العظمى، ولا يتم ذلك إلّا بسيادة العقل والمنطق على قراراته وتحرّكاته، وبتحقيق الانسجام بين الهدف والنضال المبدئي وبين المهارات الدبلوماسيّة وفق أسس فكريّة وثوريّة موازية دون غلبة أساس على آخر، وكل ذلك بما يخدم إرساء معالم ثقافة حضارية أصيلة ومعاصرة. ويستمد ذلك من خلال:

1. التمسّك بالمبادئ والقيم والأسس الشرعيّة الدينيّة، بالتزام القضايا الأساسيّة وعدم التنازل عنها لتحصيل رضا الآخرين، بل الحفاظ عليها في العقيدة والخطاب والممارسة. والسعي الجاد لتعزيز مكانة الإسلام في العالم وتصدير الثقافة والقيم الحاكمة في نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، بالاستفادة من طاقات العالم الإسلاميّ والدعوة إلى الوحدة الإسلاميّة الممكنة.
2. العقلانيّة والحكمة، عبر توظيف المعرفة الواسعة والاطلاع الوافي على القضايا الداخليّة والخارجيّة، والاستفادة من الإمكانيات، وتحديد مصادر التهديدات الكبرى، وأخذها بجديّة وعدم الاستخفاف بها أو التغافل والتجاهل، ومعالجة الموضوعات بمختلف مستوياتها (من أعلاها حتى أدناها)، والانتباه إلى الحيل وأساليب الترغيب والترهيب، وإلى الثمن مقابل مقدار الانفراج وتقييمه.
3. التعفّف والحريّة والاستقلاليّة وعدم الاستسلام في مواجهة الإملاءات، وتكرار لازمة "لا شرقيّة ولا غربيّة" أي عدم التبعية للقوى الكبرى في الشرق والغرب، والاهتمام بالحقائق والمظاهر الإسلاميّة.
4. التزام الأخلاق السياسيّة، والتي تقوم على عدم التصرّف بسوء خلق أو بطريقة غير مناسبة في أثناء المفاوضات الدبلوماسيّة، واجتناب إثارة الجدل الداخلي حول قضيّة ما، وعدم إنكار الأهداف السياسيّة والتصريح بها أحيانًا بصوتٍ عالٍ وواضح.
5. السرعة في الأداء أثناء اتخاذ القرار في ما يتعلّق بالقضايا العالميّة دون توقّف أو تردّد أو تأخير.
6. إعادة تحديد الأولويّات كلّ فترة من الزمن وفقًا للمصالح الوطنيّة ضمن إطار النظام القيمي.
7. إلقاء اللوم على مواطن الضعف لا على أفكار ومبادئ وشعارات الثورة، إذ تشكّل هذه المبادئ مصدر العزّة والمصالح الوطنيّة.

فالدبلوماسيّة فنٌ وإبداع في إيصال المراد إلى الآخر، ومعيار العمل هو مدى الانسجام مع المبادئ التي تشكّل الهويّة لا معارضة بعض الأشخاص. وبناءً على قاعدة: "كلّما كان العالم يتمتّع بعلاقات أكثر وأقرب أصبح لهذا الدور أهميّة أكبر".

التزمت إيران الإسلاميّة إستراتيجيّة تقوية جوانب المبادرة، والتخطيط الكلّي والجزئي للإنجاز على ضوء تلك المبادرة، لا الانفعال بمتابعة ما يقوله ويفعله الآخرون أو التماهي مع المواقف المخالفة لهويّتها أو اتخاذ القرار حسب الحاجة والوضع؛ فإنّ "الدبلوماسيّة الانفعاليّة" تعدّ أسوأ أشكال الدبلوماسيّة التي تتجنّبها طهران. فتحظى جودة العمل الدبلوماسي المدروس بعناية والذي يمتلك الحجج المتينة بأهميّة فائقة لديها، فتستثمر في البعد الإستراتيجيّ الذي تملكه لإخافة الطرف المقابل وتهديده أو التصغير من شأنه، وتساهم في معالجة قضاياها الداخليّة، ومتابعة العلاقات لتحقيق مصالح البلاد في أنحاء العالم كافّة، والوقوف كسدٍّ منيع في وجه هجمات الأعداء، وإيصال رسائل السلام، وفتح الآفاق.

بهذه الحياكة الشاملة يتسلّح المقاوم الإيراني في جهاده الدبلوماسي ليحفظ مصالح إيران والقضايا التي تؤمن بها وعلى رأسها القضيّة الفلسطينيّة والتزام دعم حركات المقاومة في العالم، ويشكّل "الوليّ الفقيه" ضامنًا أساسيًا في تحديد الخطوط العامّة للخيارات والسياسات والتفاعلات التي تبدّد الرهانات عند كلّ أزمة أو استحقاق وتخلق مزيدًا من التصميم والاستقامة على صراط الثورة والمقاومة، والانتقال من عتبة إلى أخرى في تخصيب اليورانيوم وإحراز نقاط إضافيّة في التقدّم العلمي والتقني ضمن مختلف المجالات، وكذلك في تطوير القدرات العسكريّة والترسانة الصاروخيّة ومعها أسراب المسيّرات وفي تجذير خارطة محور المقاومة واتساع شعاعها وتأثيرها.

لقد مرّت إيران برؤساء من اتجاهات فكريّة وسياسيّة متباينة، تارة كانت ترجّح معها كفّة الإصلاحيين وأخرى كفّة المحافظين، وما بينهما، إلا أن سياستها الخارجية ظلّت ثابتة وإن اختلفت في درجة فعاليّتها شدّة أوضعفًا، لكنّها لم تنحرف عن الاتجاه العام وإن تناقضت الرهانات داخله أحيانًا (كالتعويل من عدمه على اتفاقية 2015 النوويّة).

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات