آراء وتحليلات
عندما تضيق الخيارات المتاحة.. هل يتم الحسم؟
يتابع العالم باهتمام وتوتر تطوّر الأحداث وتداعياتها المحتملة في هذه المنطقة الجيوستراتيجية التي تترك آثارها على الرأي العام شبه المشلول بضبابية مفتوحة على السواد في أشد درجات حلكته، وعلى انفراجة ممكنة بانقشاع جزئي وتدريجي لغيوم داكنة تغطي سماء المنطقة منذ السابع من تشرين الأول/اكتوبر 2023. ومن الصعوبة بمكان قراءة التداعيات الممكنة جراء تشابك المدخلات المتناقضة والمعقّدة، وعجز جميع أطراف الصراع القائم والمزمن عن تحمل المسؤولية المباشرة عن انفجار الوضع وخروجه عن السيطرة، وهذا يعيدنا للتوقف عند معادلة اتّخاذ القرار الإستراتيجي واعتماده عمليًا من قبل هذا الطرف أو ذاك. ومن المفيد هنا الإشارة إلى بعض المحطات الأساسية، والأفكار الرئيسة التي قد تساعد على تفكيك اللوحة المعقّدة تمهيدًا لفهمها، ومنها:
* القرار الإستراتيجي بالتعريف هو مقارنة بين الخيارات المتاحة والبدائل الممكنة، ووضعها في ميزان (التكلفة والمردودية) واعتماد الأنسب، وليس بالضرورة أن يكون الأنسب أقل تكلفة، بل قد يكون الأعلى تكلفة من منطلق تكتيكي، لكنّه الأكثر مردودية وجدوى على المستوى الإستراتيجي.
* كلما اتسعت دائرة الخيارات المتاحة والممكنة كانت عملية الفرز أقل تعقيدًا والعكس صحيح، مع الأخذ بالحسبان أن ضيق مروحة الخيارات يضع مفاصل صنع القرار ومتّخذيه أمام ثنائية لا يحسدون عليها، فعندما يكون المتاح خيارًا واحدًا قابلًا لوضعه على طاولة التشريح والدراسة نصبح أمام أحد احتمالين، لا يخلو كلاهما من أخطار وتهديدات إستراتيجية، فإما أن يتم القبول بالخيار المتاح، وعندها يصبح القرار المتّخذ (قرار إذعان)، وإما أن يتم رفض المتاح والتوجّه نحو الحسم بغضّ النظر عن التكلفة، وهذا يتطلب الكثير من الجرأة والعقلانية في حساب الاحتمالات الأسوأ، وعدم إسقاط أي بديل مهما كانت نسبة احتمال حدوثه متدنية.
* خصوصية الحالة الراهنة التي تحكم مسارح العمليات المفتوحة في المواجهة المركبة بين المحور الصهيو ـــ الأميركي ومحور المقاومة، وهذا يؤكد استبعاد الاحتمالين المذكورين سابقًا: (قرار الإذعان ـــ قرار الحسم)، فلا واشنطن الداعمة لوحشية "تل أبيب" بوارد التسليم بالواقعية الميدانية التي رسخها أداء أطراف محور المقاومة، ولا هي قادرة على الحسم بما يخدم الأهداف الكبرى المتمثلة بالقضاء على المقاومة تمهيدًا لإعادة إحكام السيطرة على القرار الدولي، والأمر ذاته يتكرّر لدى أطراف محور المقاومة، فواشنطن وكلّ من يصطف تحت عباءتها جزء من الحرب الدائرة منذ أكثر من ثمانية أشهر، والتسليم بما تريده واشنطن و"تل أبيب" لا يمكن إدخاله إلى قاموس المحور المقاوم الذي قدم التضحيات الجسام للتمسك بالثوابت، وعدم التفريط بالحقوق، ناهيك عن ضخامة الفاتورة المدفوعة حتّى الآن، وليس بإمكان أحد غضّ النظر عن عشرات آلاف الشهداء وقرابة المئة ألف إصابة فضلًا عن التدمير الذي خلفته حرب الإبادة والتهجير القسري منذ أكثر من ثمانية أشهر.
* المراحل المقررة أكاديميًا لاتّخاذ القرار الإستراتيجي لا تفي بالغرض، ولا تقترب من الحدود الدنيا الضرورية لضمان تحقيق الهدف المطلوب، حيث يدخل ضمن الحسابات الأكاديمية التحديد الدقيق لكل من: العدوّ ــ الصديق ـــ الجهات المساندة لطرفي الصراع ــــ الجهات المستفيدة ـــ الجهات المتضررة ـــ الجهات الداعمة لكل طرف ـــ الأطراف المصطفة على التل للمراقبة وتحديد الموقف وفقًا لمعطيات ميادين المواجهة المفتوحة، وكلّ ما ذكر غير قابل للتقدير العلمي المضمون من قبل محور المقاومة، وليس الأمر كذلك لدى المحور الصهيو ــ أميركي، بل تكاد هذه الإشكاليات تقترب من المسلمات.
* تكرار استخدام واشنطن حق النقض "الفيتو" لمنع مجلس الأمن من اتّخاذ أي قرار يضع حدًا لحرب الإبادة "الإسرائيلية" ضدّ الشعب الفلسطيني، وإطلاق يد حكومة نتنياهو وتمديد المهل الزمنية التي تطلبها للحصول على معالم صورة لنصر متوهم، وعلى الرغم من ذلك كله بقيت الصورة التي رسمتها المقاومة الفلسطينية في السابع من تشرين الأول الماضي بألقها ودلالاتها، مع استمرار شلال الدم الفلسطيني المهدور وزيادة غزارته، ووقوف العالم مشلول الإرادة وعاجزًا عن بلورة حل قابل للتطبيق، على الرغم من صدور العديد من القرارات عن منظمات دولية وعن الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومؤسسات أخرى تابعة لهيئة الأمم المتحدة، إضافة إلى أربعة قرارات صادرة عن مجلس الأمن:
ــ القرار 2712 تاريخ: 15/11/2023م. الذي ينص على (إقامة هُدن وممرات إنسانية عاجلة ممتدة في جميع أنحاء قطاع غزّة والإفراج الفوري ومن دون شروط عن كلّ المحتجزين.
ــ القرار 2720 تاريخ 23/12/2023 الذي يدعو إلى: (اتّخاذ خطوات عاجلة للسماح فوراً بإيصال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزّة، وتهيئة الظروف لوقف إطلاق النار بين "إسرائيل" والمقاتلين الفلسطينيين) كما طالب القرار (أطراف النزاع بإتاحة جميع الطرق المؤدّية إلى قطاع غزّة والكائنة في جميع أنحائه، بما في ذلك فتح معبر كرم أبو سالم الحدودي).
ــ القرار رقم 2728 تاريخ 25/3/2024 الذي يشدد على أن: (وقف إطلاق النار بين "إسرائيل" وحركة حماس يجب أن يكون فورياً وأن تحترمه جميع الأطراف خلال شهر رمضان، ما يفضي إلى وقف دائم ومستدام لإطلاق النار، والإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع المحتجزين وضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى غزّة).
ـــ القرار 2731 تاريخ 10/6/ 2024 الذي يدعم المبادئ الواردة في اقتراح الرئيس الأميركي جو بايدن حول وقف إطلاق النار في غزّة.
ــ جميع هذه القرارات الصادرة ليست على الفصل السابع من ميثاق المنظمة الدولية، وبعضها سارع الجانب الأميركي الرسمي للتصريح والإعلان أنها غير ملزمة للكيان الإسرائيلي، وهذا يعني احتقار الإرادة الكونية، والاستهزاء بالعالم كله، ولن يكون نصيب القرار الجديد لمجلس الأمن الذي صدر من عدة أيام بأفضل مما كان عليه حال بقية القرارات التي سبقته.
* على الضفّة الأخرى شهدت أروقة مجلس الأمن استخدام حق النقض الفيتو، والتلويح باستخدامه أكثر من مرة أيضًا من قبل روسيا والصين للحيلولة دون صدور قرار يضمن الاستفراد بالمقاومة الفلسطينية تمهيدًا لتصفيتها، وعلى الرغم من أهمية هذا الموقف فإنه لم يمنع التسارع الدراماتيكي في عداد الشهداء والجرحى الفلسطينيين، وغالبيتهم من الأطفال والنساء، ولم يسفر عن تقليل الهمجية والتوحش والإجرام "الإسرائيلي" المنفلت من كلّ عقال، ولا تلوح في الأفق بوادر أن يتقدّم الموقفين الروسي والصين أية خطوة إضافية خارج إطار العمل الدبلوماسي، وهذا يزيد من احتمال الانتقال إلى سيناريو الحرب الكبرى للتخلص من حالة الاستعصاء المزمن والمركب التي تمنح "تل أبيب" المزيد من الوقت لارتكاب المزيد من الجرائم التي يندى لها جبين الإنسانية.
* باختصار شديد يمكن القول: واهمُ من يظن أن سيناريو القبول بالأمر الواقع "قرار الإذعان" ضمن قاموس أي طرف من أطراف محور المقاومة دونما استثناء، ومشتبه من يتوهم أن محور المقاومة قد يتردّد في اتّخاذ قرار الحسم إذا بقيت الأوضاع على ما هي عليه من توحش "إسرائيلي" مدعوم أميركيًا لإبادة الشعب الفلسطيني، تمهيدًا لإبادة كلّ من يفكر بشق عصا الطاعة الأميركية، والجميع يعلم أن هذا المحور المتكامل هو صاحب الفضل الأكبر في تآكل هيبة النفوذ الأميركي، وتهيئة البيئة الإستراتيجية المطلوبة لانطلاق قطب مكافئ ما تزال القوى المؤهلة لشغله متردّدة في إعلان الخطوات الجدية لبلورته، والجميع على يقين من أن هذا الصراع المركب القائم لن يستمر إلى ما لا نهاية، وبالتالي يمكن القول إننا أمام عدة سيناريوهات محتملة، ومنها:
1 - سيناريو اشتعال الضفّة الغربية وانطلاق انتفاضة أشد من كلّ سابقاتها، وهذا كفيل بإرغام الرؤوس الحامية في الكيان المؤقت على فرملة الإفراط في العدوانية والتفكير مع واشنطن في إيجاد مخارج قابلة للتطبيق، وقد يكون هذا السيناريو الأكثر مردودية والأقل تكلفة. وعلى الرغم من ارتفاع تكلفته، فإنه الأكثر قدرة على إيلام حكومة نتنياهو وإدارة بايدن في آن معًا، وفي حال تم الذهاب في هذا الاتّجاه، فاللوحة المتشكلة مرشحة لتغيير جوهري في معالمها الرئيسة، وأهم ما في الأمر أن حدوث هكذا سيناريو ممكن وضمن عوامل القوّة المتاحة.
2 - سيناريو اضطرار محور المقاومة لاعتماد قرار الحسم مهما ارتفعت الضريبة، وإلا فالبديل الوحيد أن يؤكل الجميع يوم أكل الثور الأبيض، ولا أظن مفاصل صنع القرار الأميركي تستبعد هذا الخيار، ولولا القناعة الكبيرة باحتمال حدوثه لما تم استحضار الأساطيل والبوارج وحاملات الطائرات ومنصات إطلاق الصواريخ، ولما كان هذا القدوم الأميركي المتواصل إلى المنطقة لقيادة العمليات عن كثب، وليس من بعد، لأن ما تبلور من حقائق على الأرض حتّى اليوم يثبت أن الكيان الإرهابي المؤقت لا يؤتمن على اتّخاذ القرار الإستراتيجي الذي قد يسرع أفول الأحادية القطبية الأميركية دفعة واحدة، وإلى غير رجعة.
3 - السيناريو الثالث، وهو الأسوأ: بقاء الوضع على ما هو عليه بين مد وجزر، وبين تمرير قانون دولي غير قابل لترك مرتسمات على أرض الواقع، أو رفع سقف الخطاب الرسمي المعلن ضدّ العدوانية الصهيونية، وفي الوقت ذاته إمداد "تل أبيب" بشكل مباشر وغير مباشر بما يمكنها من الاستمرار أطول فترة ممكنة في حرب الإبادة الممنهجة والمعتمدة برضا أميركي، وبمشاركة أميركية مباشرة، وعلى شتّى الصعد والمستويات.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
29/11/2024