آراء وتحليلات
قراءة في الخطاب الإستراتيجي للسيد نصر الله
بدايةً يمكننا وبدون مقدمات وصف كلمة الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله في الاحتفال التأبيني الذي أقيم تكريمًا للشهيد القائد طالب عبد الله "أبي طالب"، بأنه واحد من أهم أهم خطاباته الاستثنائية والإستراتيجية نظرًا لتوقيته ومضمونه ونتائجه المتوقعة.
في التوقيت:
جاءت كلمة سماحته في مرحلة دقيقة، وبعد مرور أكثر من ثمانية أشهر على عملية طوفان الأقصى والعدوان على غزّة والمعركة التي تقودها جبهات الإسناد دعمًا للمقاومة الفلسطينية، وما تخللته تلك المرحلة من أحداث ميدانية وعسكرية وسياسية، وحرب الإبادة الجماعية التي تشنها "إسرائيل" وبدعم مطلق من واشنطن على قطاع غزّة، وفشل كل الجهود السياسية لوقف تلك الحرب، وانفضاح المراوغة الأميركية.
وبشكل أدق، فإن خطاب السيد جاء في لحظة أيقن فيها محور المقاومة أن إدارة الرئيس الأميركي "جو بايدن" قد فشلت في تطويع رئيس الوزراء الصهيوني "بنيامين نتنياهو" وشركائه من القوميين واليمين المتطرّف في الحكومة، وأنها - أي الإدارة الأميركية - باتت مضطرة وفي ظلّ الانغماس في السباق الانتخابي إلى الخضوع لرئيس الوزراء الصهيوني وللوبي اليهودي الداعم له في الولايات المتحدة، وهو ما دلت عليه مؤشرات عدة كالخطاب الذي سيلقيه نتنياهو أمام الكونغرس، وفشل زيارة بلينكن الأخيرة، وكذلك فشل زيارة مبعوث الرئيس الأميركي "هوكشتاين" إلى الكيان الصهيوني ولبنان. وبمعنى آخر؛ فإن واشنطن اقتربت من التخلي عن طموحاتها للحل السياسي، وستكون مقبلة على استبدالها بدعم عسكري مطلق لـ"إسرائيل"، وتحديدًا من أجل اقتحام مدينة رفح، أو المغامرة بتنفيذ عدوان على لبنان..
وفي المضمون: فقد تضمن خطاب السيد الكثير من الرسائل ذات البعد العسكري والجيوسياسي
فعلى الصعيد العسكري تحدث سماحته عن تعاظم قدرات حزب الله، عسكرياً وتقنيًا وتكنولوجيًا وبشريًا، وشمل ذلك القدرات الاستخباراتية للحزب على طول الجبهة وفي العمق "الإسرائيلي" إلى حيفا وما بعد حيفا، وبعد بعد حيفا، وهو ما كان بدأه الحزب في اليوم السابق للخطاب عبر رسالة "الهدهد" الذي حصل على مسح دقيق لكامل منطقة الشمال وصولًا إلى منطقة حيفا وجوارها ومينائها وكلّ ما تحتويه من منشآت مدنية وعسكرية واقتصادية، قبل أن يعلن السيد في خطابه بأن الكيان الصهيوني بأكمله تحت رصد المقاومة وأنها قادرة على استهدافه بالصواريخ والمسيرات استهدافًا دقيقًا وليس عشوائيًا، أو كما قال السيد بالطير الصافات، حيث بنك الأهداف سيكون مفتوحًا ومن غير سقوف، من أقصى جنوب فلسطين المحتلة إلى أقصى شمالها، وهو ما عبر عنه السيد بقوله:
" العدوّ يعلم أنه لن يبقى مكان في الكيان سالمًا من صواريخنا ومُسيّراتنا وليس عشوائيًا، ولدينا بنك أهداف حقيقي وكبير ولدينا القدرة على الوصول لهذه الأهداف بما يزعزع أُسس الكيان".
وحول الوضع العسكري على جبهة الحدود اللبنانية الفلسطينية، فقد استفاض السيد في شرح تفاصيل الجبهة ودورها وأهميتها، وأوضح بأن المقاومة الإسلامية محيطة بها بدقة، وبكل ما يجري على الجانب الإسرائيلي..
ويفهم من كلام سماحته بأن المقاومة على الأرض تقوم حتّى الآن بتنفيذ مهمتين رئيسيتين على تلك الجبهة:
- الأولى تتمثل باستنزاف الجيش "الإسرائيلي" وقدراته دعمًا لغزّة ومقاومتها ولمنع العدوّ من تحويل كامل قدراته وقواته نحو غزّة. .
- الثانية تتمثل باستهداف التجهيزات اللوجستية والإلكترونية والاستخباراتية للعدو وإصابته بالعمى العسكري والجوي والاستخباراتي تمهيدًا لأي تطوّر محتمل في المعركة على الجبهة اللبنانية، واستعدادًا لنقل المعركة بالكامل للداخل الفلسطيني من جهة الشمال في حال غامر العدوّ بارتكاب حماقة لاجتياح لبنان، وهو ما عبر عنه السيد بقوله إن الدخول إلى الجليل ما زال مطروحًا..
وفي الرسائل ذات البعد العسكري أيضًا حرص سماحة السيد على الحديث عن بعض قدرات المقاومة وما تمتلكه بما فيه الكفاية لإيصال رسائل الردع للعدو ومن يدور في فلكه ويدعمه، وأهم ما كشفه سماحته في هذا الجانب تمثل بحصول الحزب على أسلحة جديدة، وتطويره للأسلحة التي يمتلكها، بالإضافة لتصنيعه للطيران المسيّر، وبأن لدى المقاومة ما يزيد عن 100 ألف مقاتل بكثير بما يزيد عن حاجة الجبهة اللبنانية..
في البعد الجيوسياسي
لا ينفصل البعد الجيوسياسي لخطاب سماحة السيد عن الأبعاد الجيوسياسية لعملية طوفان الأقصى منذ انطلاقتها، لكنّه حمل ثلاث إضافات مهمّة للغاية:
* الأولى؛ متعلّقة بالنفوذ "الإسرائيلي" في البحر الأبيض المتوسط، حيث قال سماحته: "العدوّ يعرف أن ما ينتظره أيضًا في البحر المتوسط كبير جدًا وكلّ سواحله وبواخره وسفنه ستُستهدف" وهذا يعني في ما يعنيه أن قدرة حزب الله ليست فقط في ضرب سلاح البحرية "الإسرائيلية" أو استهداف أسطوله البحري التجاري فقط، بل يعني أيضًا أن الحزب قادر على إطباق الحصار بالكامل على الكيان الصهيوني من جهة البحر المتوسط، وقادر أيضًا على فرض نفسه كلاعب رئيسي في شرق المتوسط، كما هو حال اليمن في البحر الأحمر.
* الثانية؛ متعلّقة بدولة قبرص وعلاقاتها التي تربطها مع الكيان الصهيوني وتحديدًا علاقات الشراكة العسكرية برعاية واشنطن ومشاركة دول تطبيع عدة، حيث قال سماحة السيد مخاطبًا الحكومة القبرصية ومحذرًا:
" ألفت نظر الحكومة القبرصية إلى أن لدينا معلومات بأن جيش العدوّ يُجري مناورات استعدادًا لحرب لبنان هناك، ومطارات قبرص مفتوحة للطائرات ""الإسرائيلية"" وبكلمة واحدة أقول، إن على الحكومة القبرصية أن تحذر لأن فتح المطارات للعدو لضرب لبنان يعني أن قبرص جزء من الحرب وسنتعاطى معها على أنها جزء من الحرب".
* الثالثة؛ متعلّقة بما ختم به السيد خطابه بقوله إن "هذه المعركة هي أشرف معركة منذ عام 1948، وأنها ستغير وجه المنطقة"، والسيد بذلك يريد أن يعلن ويثبت نتائج الانتصار الحتمي لا محالة في معركة طوفان الأقصى وما تلاها، وأنه ليس أمام العدوّ "الإسرائيلي" وداعميه من الأميركي وغيره من سبيل سوى الاعتراف بنتائج هذا الانتصار، والتي عرّج السيد في خطابه على الكثير منها، سواء ما هو متعلّق منها بجبهة اليمن أو الجبهة العراقية أو غيرها من الجبهات..
بالمختصر؛ سماحة الســيد حسـن نـصـر الله أطلق رصاصة الرحمة على المعادلات الجيوسياسية التي حكمت المنطقة لعقود طويلة، ووأدَ كل المشاريع الجيوسياسية الخبيثة والجديدة التي كان يجري الإعداد لها منذ سنوات، وجعل كلمة محور المقاومة هي العليا، وكلمة المحور الصهيوأميركي هي السفلى..