آراء وتحليلات
الانتخابات الإيرانية وتحويل التحديات إلى فرص
منذ الإعلان عن انتصار الثورة الإسلامية التي قادها آية الله العظمى الإمام روح الله الخميني (قده)، وإيران تثبت بالأفعال قبل الأقوال أنها دولة تفرض احترامها وحضورها الفاعل المستند إلى روافع وعوامل قوة ذاتية بجناحين اثنين: قوة روحية معنوية إيمانية تلتزم النهج المحمدي وسيرة الآل الأطهار(ص)، وقوة مادية تعتمد النهج العلمي والتفكير الإستراتيجي القادر على استثمار الموارد والطاقات وتفعيل الإمكانيات والتعامل الندّي مع بقية دول العالم صغيرة كانت أم كبيرة، انطلاقاً من القانون الدولي وثوابت الثورة الإيرانية التي تركت آثارها في العلاقات الدولية إقليمياً وعالمياً. ولعل النظام القائم في الجمهورية الإسلامية الإيراني خير شاهد على ذلك، فهو أقرب ما يكون إلى حالة التفرد التي تميزه عن بقية أنظمة الحكم في العالم أجمع.
خصوصية النظام السياسي الإيراني
انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وإعلانها شعار: "لا شرقية ولا غربية" وضعها وبشكل دائم أمام تحديات كبرى للحفاظ على جوهرها الديني والإنساني والأخلاقي؛ فالحفاظ على ألق الثورة ووهجها ليس أمراً يسير المنال، ولا يمكن بلوغ ذلك إلا باعتماد نظام سياسي متماسك من جهة وملتصق بالشعب، ومعبر عن إرادته ومصالحه وتطلعاته من جهة أخرى، مع ضمان مراقبة الأداء وتقييمه وتقويمه في الوقت المناسب، وهذا سر النجاح في مواجهة مختلف التحديات التي اعترضت مسار الثورة الإسلامية التي ما تزال في تصاعد مستمر.
وقد نجح الأداء الرسمي لجمهورية الاقتدار في تحويل أخطر التحديات وأشدها إلى فرص يتم استثمارها بشكل خلاق، وبما يساهم في مراكمة أوراق القوة الإيرانية. وقد يكون من المفيد تقديم مختصر مكثف للنظام السياسي المعتمد منذ فجر الثورة، حيث صمام الأمان وضابط إيقاع أداء جميع المؤسسات الرسمية المتمثل بوجود آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي، وهو القائد العام للقوات المسلحة الإيرانية، وبتوجيهاته يسترشد الجميع، ضمن تشابكات وتأثيرات ترسم معالمها شبكة معقدة من علاقات التكامل البنّاء بين جميع المؤسسات التابعة للسلطات المختصة الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية.
فالرئيس الإيراني ينتخب من الشعب بشكل مباشر، ويحق له البقاء في منصبه لفترتين انتخابيتين فقط مدة كل منهما أربع سنوات، وقد خوله الدستور أن يكون رئيس الفرع التنفيذي للسلطة، كما أنه المسؤول عن ضمان تنفيذ الدستور، وهناك مجلس الشورى المنتخب من الشعب ولمدة أربع سنوات أيضاً، ويتمتع بسلطة إصدار القوانين وإقرار الميزانية السنوية أو رفضها، فضلًا عن استدعاء الوزراء والرئيس وعزلهم، إلا أن قرارات مجلس الشورى يجب أن تقترن بموافقة مجلس صيانة الدستور، وله سلطة الاعتراض عليها، كما أن صلاحيات مجلس صيانة الدستور تشمل منع المرشحين من خوض انتخابات البرلمان والرئاسة ومجلس خبراء القيادة، ويتألف المجلس من ستة علماء دين يعينهم القائد، وستة فقهاء قانونيين يرشحهم القضاء ويوافق عليهم البرلمان، ويتم انتخاب الأعضاء لست سنوات على أساس مرحلي، بحيث يتغير نصف الأعضاء كل ثلاث سنوات.
إضافة إلى ما ذكر يضم النظام السياسي في الجمهورية الإسلامية مجلس خبراء القيادة المؤلف من 88 عالماً من رجال الدين، والمجلس هو المسؤول عن تعيين الولي الفقيه ومراقبة أدائه، ولديه سلطة عزله إذا اعتُبر غير قادر على أداء واجباته، وبالتكامل مع عمل مجلس خبراء القيادة يوجد مجلس تشخيص مصلحة النظام، وعدد أعضائه 45 شخصًا يعينهم الولي الفقيه من الشخصيات الدينية والاجتماعية والسياسية البارزة، ومهمتهم تقديم المشورة للولي، إضافة إلى تمتع المجلس بسلطة الفصل النهائية في النزاعات حول التشريعات بين البرلمان ومجلس صيانة الدستور.
ومن المفاصل المهمة في صناعة القرار الإيراني رئيس القضاء الذي يعينه القائد، وإليه يرفع التقارير الدورية الخاصة بالسلطة القضائية في الدولة، ومن مهام وصلاحيات رئيس القضاء ترشيح الأعضاء الستة القانونيين في مجلس صيانة الدستور.
ولا شك أن مثل هذا النظام المتدخل والمتشابك بتكامل أداء وفق أحكام الدستور يجعل من إمكانية اختراق أي مفصل من مفاصل العمل الرئيسة شبه مستحيل، فضلاً عن الإمكانية التي يوفرها لمعالجة أي خلل في الأداء فور حدوثه، وكأنَّ جرس إنذار مضبوط الأداء والبوصلة يعمل على مدار الساعة، وهذا ما ظهر منذ الأشهر الأولى لانتصار الثورة، حيث تم انتخاب "أبو الحسن بني صدر" بتاريخ 25/1/1980، وبعد فترة قصيرة من الحرب الظالمة التي فرضها نظام صدام حسين كان لافتاً مسارعة مجلس الشورى للاضطلاع بمهامه والمبادرة لعزل الرئيس بتاريخ 22/7/19081، وعندما تم اغتيال الرئيس محمد علي رجائي بتاريخ 30/8/1981 بعد أقل من شهر على تسلمه مهامه كرئيس للبلاد كان أداء المؤسسات الإيرانية أنموذجاً يحتذى في التعامل مع المستجدات مهما كانت قساوتها، وهذا ما ضاعف قدرة الدولة الإيرانية وتمكنها من تحويل تحدي الحرب المفروضة إلى فرصة ذهبية رسم معالمها سماحة الإمام الخميني عندما أكد على ضرورة تحويل الحرب إلى مدرسة، وهذا ما حصل، وأتون الحرب متقدة، فكانت المدرسة من نوع جديد لأنها متعددة المجالات ومناحي العمل، أي كان هناك مدرسة في العسكر وأخرى في الاقتصاد وثالثة في التقصي وتحديد عوامل القوة والضعف، ورابعة متخصصة بسد النقص والحاجات المطلوبة لتجنب خسارة الحرب. ومن يقارن بين واقع الجمهورية الإسلامية الإيرانية عشية الحرب، وبين ما تمتلكه اليوم من قدرات جبارة وعلى شتى الصعد يتأكد له أن الجمهورية الإسلامية قد حولت بحق الحرب إلى مدرسة، بل إلى أكاديمية، كما حولت تحدي إجهاض الثورة قبل أن يشتد عودها إلى فرصة لبناء القدرات الذاتية، واستكشاف عوامل الوهن وتلافيها جنباً إلى جنب مع تحديد عوامل القوة وتجذيرها وتفعيلها بعيدًا عن عالم الأمنيات والرغبات والأحلام التي سرعان ما تتلاشى مع فتح رموش العين ورؤية الواقع.
الانتخابات الرئاسية وتحديات الواقع
من يتابع ما تنشره وسائل الإعلام المعادية لإيران الثورة، وما يحرص الدائرون في الفلك الصهيو ــ أمريكي على تعميمه عبر مختلف المواقع ومنصات التواصل الاجتماعي يدرك عظمة إيران والمكانة الرفيعة التي تبوأتها، وهي تواصل الصعود بخطى ثابتة نحو الأعلى، وهذا يعني أن مجرد ذكر "إيران الثورة" يسبب لأولئك جميعاً التوتر والقلق، ويصيب رؤوس كبار المشغلين بالصداع المزمن الذي لا تخف آلامه "الشقيقة"، وهم معذورون بعض الشيء، فكثرة الصفعات وتتاليها بوتائر متسارعة كفيلة بدفع جلاوزة الصهيونية وأتباعها إلى فقدان الاتزان والهلوسة أمام ثنائية متناقضة، فالجبروت العسكري والاقتصادي، وضمان فرض الصمت على المجتمع الدولي" تعجيز المجتمع الدولي" لم يغير من معالم اللوحة التي يرسم معالمها محور المقاومة كما يشاؤون، وهنا يتجلى الحد الآخر لتلك الثنائية المتناقضة، فعلى الرغم من الحصار الجائر لعقود، وعلى الرغم من تجنيد العديد من الأنظمة والدول لشيطنة إيران بخاصة وبقية أطراف محور المقاومة بعامة، وبعد تسعة أشهر من أقذر حرب عرفتها البشرية على قطاع غزة المحاصر وما خلفته الوحشية الإسرائيلية المدعومة أميركيًّا وأطلسيًّا..الخ إلا أن النتائج المتبلورة على الأرض تقول إن حائك السجاد الإيراني يتابع عمله بثقة ويقين، وإن المقاومين على شتى الجبهات والمحاور يثبتون بشكل عملي أن الدم ينتصر على السيف، وأن آفاق المستقبل القريب أكثر قتامة أمام جميع أطراف المحور الصهيو أنكلو ساكسوني، وهذا كفيل بتوجه كتَّابهم وأصحاب الأقلام المأجورة إلى تقيؤ الحقد والسموم، وإعادة محاولة بثها لكن هيهات وهيهات، فطبيعة نظام السلطة الوطنية الإيرانية محصنة جينيًّا ضد السموم بتكامل كفاءة القيادة مع أصالة الشعب الإيراني وبراعته في مواجهة الأعاصير والتحديات، وهذا ما جعل كل العواصف الممنهجة، وما يفكر به الأعداء ليس أكثر من زوبعة في فنجان، وأقصى حدود يمكن أن تبلغها هكذا زوابع لا تتجاوز احتمال تكسر أطراف الفنجان الذي هو جزء من مشروع التهويل والترويع المفضوح بعد تآكل ما تبقى من هيبة بلاد العم سام بالتزامن مع انهيار روافع ما كان يسمى"الردع الإسرائيلي"، وهذا أحد الأسباب الإضافية للكذب والنفاق وما يدور في فلكهما، من منطلق تأمين البديل الوحيد الذي قد يعوض ـــ جزئيًّا ــ أولئك المرضى والمهووسين بهاجس التفوق والأفضلية على البشرية جمعاء.
يبدو أن الضغينة المعادية للإنسانية لم تعد حبيسة الصدور، بل خرجت إلى العلن بعدما رأى أعداء إيران بأم العين تماسك الشعب الإيراني وخروج إيران بكل مكوناتها للمشاركة في تشييع الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي ومن ارتقى معه بتحطم مروحيتهم بتاريخ 19/5/2024. وهذا ما نسف السردية المعادية من الجذور، وبخاصة بعد فشل دوائر الاستخبارات الأطلسية والأميركية والصهيونية في دفع الشارع الإيراني للانقلاب على قيادته، وثبت للعالم أن القيادة الإيرانية ملتصقة بشعبها إلى حد التماهي، وإلى درجة وُصِفَ فيها الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي بخادم الشعب الإيراني، وأتت الموجة الثانية من البروباغندا المشبوهة بالترويج لقطيعة بين الشعب والسلطات المختصة، وأتى موعد الانتخابات الرئاسية وبلغت المشاركة فيها قرابة 50% وهي تقارب ضعف النسبة التي تبلغها الانتخابات المشابهة في الولايات المتحدة الأميركية وبقية دول الغرب الأوروبي الذي تصلب ظهره المتقوس أمام اليانكي الأميركي منذ مشروع مارشال في خمسينيات القرن الماضي.
باختصار شديد يمكن القول لمن يتمنون أو يتوهمون أو يروجون ويعملون على شق الصف الإيراني إن عليهم أن يعدوا أنفسهم جيداً لإضافة خيبة جديدة أكبر من كل الخيبات التي راكموها سابقاً، فإيران الثورة التي خلعت الشاه المُنَصَّبَ أميركيًّا، وسلمت مبنى سفارة الكيان "الإسرائيلي" إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وإيران التي تحولت على امتداد سنوات حرب صدام حسين إلى ورشات عمل وفكر وجهد وعطاء مثمر نجح في الانتقال بإيران من دولة تابعة إلى قطب إقليمي لا تستطيع حتى القوى العظمى تجاهل دوره الجيوبولتيكي المؤثر، ولا القفز فوقه، وإيران التي انتقلت عبر عقود الحصار والعقوبات من بلد يعتمد في الكثير من حاجاته على الخارج إلى بلد يصدر الكثير الكثير حتى لكبريات الدول العظمى والفاعلة، وإيران التي رفعت الندية عصا غليظة في وجه الأميركي وأعوانه، واستطاعت أن ترفع تخصيب اليورانيوم من 3 و4% إلى 60%، وأعداؤها على يقين أنها قادرة على التخصيب بدرجة 90% متى أرادت، وإيران التي عملت مع بقية أقطاب محور المقاومة على تقليم أنياب أميركا ومخالب بريطانيا وشبيهاتها من دول المعسكر الأطلسي المعادي للإنسانية، وإيران التي ساهمت وبما لا يخطر على الذهن، وواصل جنرالاتها العمل ليل نهار لتقوية شوكة المقاومة فكان طوفان الأقصى وأغلاق البحار، وما أدراك ما الطوفان، وما إغلاق البحار... إيران الثورة التي فتحت ذراعيها لدول المنطقة وشعوبها، وأثبتت أن مستقبل المنطقة يحدده أبناؤها وليس دعاة النيوليبرالية أو غيرهم، وإيران الثورة اليوم تجاوزت بأشواط كل ما كان يوضع في طريقها من عراقيل وتحديات. إيران هذه اليوم أكثر قدرة من أي وقت على إلزام أصحاب الرؤوس الحامية بإعادة الحساب أكثر من جرة قبل التفكير بضرب الرأس بالجدار. وما لا يعلمه أعداء إيران عن إمكاناتها وقدراتها أضعاف ما يعرفونه، وويل للذين قست قلوبهم إن ظنوا أنهم أقوى من الحق ورجال الحق المستعدين للاستشهاد في سبيل الحق ونصرة المظلومين، ومقارعة الطغاة الظالمين، وإذا جاء وعد الآخرة سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
29/11/2024