آراء وتحليلات
أوهام لعبة الانتخابات الرئاسية الأميركية
تشهد الولايات المتحدة الأميركية كلّ 4 سنوات انتخابات على مستوى الرئاسة. كلّ 48 شهرًا هناك فرصة تكاد تكون النصف لوصول وجه جديد للبيت الأبيض. هذا الموقع الرفيع على كرسي الرئاسة في أكبر قوة عالمية ينتظر منه البعض - غالبًا العرب - شيئًا، كأن تسوق الأقدار إليهم كنزًا استراتيجيًا ينظر بعين العطف والرعاية لمطالبهم أو مصالحهم، أو على الأقل يخفف قليلًا من وطأة القبضة الفولاذية لواشنطن على رقبة المنطقة الطرية الاقتصاد بفعل هيمنة الدولار العالمية الحالية، وارتباط كلّ الاقتصاديات الرسمية العربية به كعملة مبادلة أساسية.
القول الفصل في مسألة الاهتمام أو المتابعة أو الرهان على وجه ما في الانتخابات الأميركية ما هو إلا وعد المنافق الكسول الجاهل، والموقف المبدئي والإيماني لخصه الإمام العظيم روح الله الخميني قدس سره بأن "أميركا هي الشيطان الأكبر"، أميركا هي العدو، ولن تنقلب العداوة إلى صداقة أو تأخذنا إلى هدنة، إنها عداوة من القلب والروح والأعماق لتلك القوّة الظالمة الباطشة التي تمثل - كما الشيطان تمامًا - الشر المطلق والكامل، وهذا يجعل من المنطقي الجهر بأن سباق الانتخابات هذا سباق الضباع، بعد نهايته سيتأهب الفائز منهما لالتهام أكبر حجم من ثروات وإمكانيات وموارد العرب، ولن يترك الجلد والعظم إن وجد إلى تسويقهما سبيلًا.
وتأتي الانتخابات مع الفوضى التي تضرب أكبر قوة في العالم، وتلك نتيجة أساسية لفشلها في مواجهاتها كافة في عهد الخرف بايدن، الذي أعلن انسحابه من السباق الرئاسي أمام ترمب، لأسباب أولها وأكبرها فشله في الساحة المفضلة -الشرق الأوسط - وإنجاز جبهة المقاومة بتحويل وهم القوّة الأميركية إلى فوة فاشلة عاجزة غير قادرة على تحمل أعباء الحرب الواسعة، وفشلها في منع حزب الله أو اليمن من الوصول إلى الكيان، ووضعه في خانة التهديد الوجودي. وسواء كانت حظوظ ترامب أكبر، أو نجح الحزب الديمقراطي في إيجاد مرشح من بين كاميلا هاريس أو جون كيري أو روبرت كينيدي، أو حتّى أوباما، فالأمر بالنسبة لنا واحد، سنواجه عدوًا جديدًا في كلّ الأحوال.
لكن أيضًا هناك قول بتغير السياسات الأميركية عقب أي انتخابات رئاسية. هذه حقيقة ناتجة عن سلطة الرئيس الجديد على تعيين آلاف الموظفين الفيدراليين في مختلف درجات الوظائف، من الوزراء إلى السفراء إلى القضاة، وغيرهم، وبالتالي فإن الانتخابات سوف تضخ -نظريًا - دماء جديدة في أوصال العملاق العجوز، ممثلة في وجوه مختلفة بسياسات متغيرة. هذه الفرضية قد سحقها تحالف كارتل "رعاة الانتخابات"، أو من أطلق عليهم وحذر منهم أيزنهاور في رسالته الرئاسية الوداعية "مجمع مصالح السلاح"، فأي رئيس أميركي بحاجة إلى إنفاق عشرات ومئات الملايين من الدولارات على حملته الانتخابية، والتي تدفع مقابل ذلك السحر "البروباغندا" التلفزيونية، وبالطبع فإن من يدفع لحملة رئيس ما ينتظر مقابلًا، وهذا المجمع العسكري الصناعي قادر فعلًا على فرض كلمته، مهما كان الشخص الجالس في البيت الأبيض.
لكي تكون الصورة أقرب، فإن صورة الولايات المتحدة كانت تستدعي مشاهد حمامات الدم والنار في أفغانستان والعراق، وتخنق العقل بروائح اللحم البشري المشوي والمهروس تحت جنازير دباباتهم، أو الدمار الهائل الذي نثرته طائراتهم في زمن بوش الابن. كان اللعين بحق طاغية زمانه، غشومًا جهولًا حقودًا عنصريًا جريئًا في سفك الدماء وشن الحروب وتدمير الدول، وكانت إدارته بوجود الشيطان كولن باول والأفعى كونداليزا رايس، هي الأكثر تعطشًا للدماء والأكثر فجورًا.
تصور البعض أن صعود أي رئيس جديد بعد انتهاء فترتي بوش الابن سيكون جيدًا، سيحمل الخيرات، أو على الأقل فإن ذهاب بوش يضمن أن لا تعاود القوّة الأميركية الجبارة نوبات جنونها التدميري المفاجئة، وكان البديل الجديد لائقًا تمامًا على مهمته، إنه زنجي المنزل، أو الرئيس باراك أوباما، الذي ينحدر من أصول إفريقية ومسلمة، وما يجب أن يعترف به الإنسان أنه ممثل بارع استطاع أداء دوره بمنتهى الخبث واللؤم. بدأ أوباما عصره - 8 سنوات سوداء - واعدًا بأنه سيفتح صفحة جديدة مع العرب ومع العالم الإسلامي بأسره، طار إلى القاهرة حيث ألقى خطابًا افتتحه بعبارة السلام عليكم ورحمة الله "بالعربية"، ثمّ كانت لقطته الأكثر إذهالًا حين زار السعودية وانحنى بطريقة مبالغ فيها وهو يمسك يد ملكها العجوز عبد الله. كانت لقطة تستحق أوسكار التمثيل، أكثر من أي شيء آخر.
لكن لنأتِ للواقع، ماذا فعل هذا الرئيس على الأرض؟ وما الذي غيره فعلًا في المنطقة؟! الجميع يعلم ويذكر وربما لا تزال به آثار أشهر حرب أميركية غير معلنة على العالم العربي، الربيع المشؤوم كما وصفه أوباما، في تونس ومصر وسورية وليبيا. كانت المخالب الأميركية ملطخة بدماء ملايين وحيوات مئات الملايين، وكلّ هذه الدول لا تزال أمامها فاتورة من الدم، بعد كلّ ما دفع ونزف.
ولكن يكون الرد منصفًا ومستوفيًا شرط الإلمام الكامل بعهد رئيس أميركي، فإن كتاب "حروب أميركا القذرة" لمؤلفه الكاتب السياسي جيرمي سكاهيل، كشف عن تفاصيل بشعة في طريقة إدارة "أوباما" وعصابته للحروب في العالم، إذ إنها انتقلت من كونها مواجهات مباشرة يحكمها نوع من التبريرات الأخلاقية ولو بالادّعاء والزور، سعيًا لكسب الرأي العام العالمي، إلى كونها حروبًا مافيوية تجري بين أفراد عصابات في غابة معزولة لا تعرف قواعد أو قانون، ولا تراعي أي منطق في مذابحها المتتالية.
هذا الكتاب الذي من الضروري الإطلاع عليه كاملًا، بوصف كاتبه صحفيًا استقصائيًا من طراز رفيع، يكشف الغطاء عن نقل مهمّة الحرب الأميركية من البنتاغون إلى "مقاولي الحروب"، وفي أول القائمة تأتي شركة "بلاك ووتر" وسمعتها لا تحتاج إلى شرح أو تفصيل. ويقول كاهيل إن إدارة أوباما وظفت التكنولوجيا الأميركية المتفوقة في تبديل شكل الحرب بصورة جذرية، فلم يعد من الضروري الاحتفاظ بجيوش ضخمة في الخارج، أو امتلاك قواعد محصنة تدار منها العمليات. لقد أطلق أوباما على العالم الإسلامي نسخته الأسطورية من "ميدوسا" المرعبة، أو ما يسميها كاهيل بـ "الدرونز"، ويقول إن أوباما دخل البيت الأبيض بوعد وقف الحروب الخارجية، خصوصًا في العراق وأفغانستان، وإغلاق معتقل غوانتانامو، وهو لم يفعل أيًّا منهما بالطبع، بل إن الإحصائيات تقول إن أميركا في عهد أوباما استخدمت الطائرات من دون طيار الهجومية أكثر بـ 7 أضعاف مما فعلته في عهد جورج بوش الابن، هذه الطائرات كلها استخدمت واستهدفت البلاد العربية الإسلامية، أفغانستان والعراق واليمن.
في النهاية لا تبقى سوى كلمة واحدة عن وعينا الجمعي فيما يتعلق بانتخابات إمبراطورية الشر الأميركية: لن نجد في هذا الجانب حلفاء أو أصدقاء، وإن وجدوا فإنهم لن يكونوا بالتأكيد جالسين على مقاعد الحكم في المكتب البيضاوي.
الولايات المتحدة الأميركيةدونالد ترامبجو بايدن
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
29/11/2024