طوفان الأقصى
مستقبل غزّة بين المشروعين الصيني والإماراتي
اليوم التالي في غزّة هو العنوان الأبرز لجميع المباحثات والاجتماعات واللقاءات، بما فيها اجتماعات غرف العمليات العسكرية لجميع الأطراف، كما أنه يمثل المقياس الذي تقاس به نتائج الحرب وهو المحدّد لصاحب النصر في هذه الجولة المفصلية والوجودية في الصراع.
وعندما قالت المقاومة منذ الأيام الأولى للحرب، وبعد تدخل جبهات الإسناد، وعلى لسان الأمين العام لحزب الله، سماحة السيد حسن نصر الله، إن النصر يتمثل في إفشال العدوّ وبقاء المقاومة وتحديدًا حماس، فقد كان سماحته يصف النصر الاستراتيجي. وبقاء حماس هنا يعني الاحتفاظ بقوتها وسلاحها، والأهم الاحتفاظ بخيار المقاومة في غزّة، لأن انتصار إرادة المقاومة هو الانتصار الاستراتيجي، بينما انكسار الإرادة ووجود غزّة دون خيار للمقاومة هو الانتصار الاستراتيجي للعدو.
من هنا تأتي أهمية أن يكون اليوم التالي للحرب معبرًا عن بقاء المقاومة كخيار وبقوة تسمح بتنفيذ هذا الخيار وليس رفعه كشعار فقط، وهو ما يعني أن تدار غزّة بإرادة فلسطينية حرة دون وصاية ودون تدخل ودون مصادرة لخيار المقاومة أو سلاحها.
وتزامنت رسائل الهدهد 3 والأهداف النوعية التي تم تصويرها لأول مرة في تاريخ الكيان، مع زيارة نتنياهو لأميركا، وفي حالة تشهد استنفارًا عسكريًّا للدفاعات الجوية ترقّبًا لرد اليمن، هو خير دليل على وهن الكيان، وخير دليل على اقتدار المقاومة ومصداقيتها في الوصول إلى يوم تالٍ يعلن نصر المقاومة.
ومن هنا يمكن مراقبة المشاريع المختلفة لإدارة غزّة بعد الحرب وتقييمها، ومعرفة المشاريع التي تحقق النصر للمقاومة، وفرزها عن المشاريع التي تعمل لصالح العدوّ وتحقق له النصر.
ولكن من المهم القول بأن جبهة المقاومة وقوى الإسناد لم تعلق على هذه المشاريع، وفاًء بالتزام هذه القوى بأنها لا تتدخل في القرار الفلسطيني الداخلي الذي تتّخذه المقاومة، وأنها ستوافق على كلّ ما تقرره حماس وفصائل المقاومة، مما يرونه مصلحة وانتصارًا، وأنها مستمرة في الإسناد طالما استمر العدوان مهما كانت الانزلاقات حتّى لو وصلت الأمور لحرب شاملة.
ومؤخرًا انحسرت هذه المشاريع في مشروعين رئيسيين، أولهما المشروع الصيني الذي استضاف الفصائل الفلسطينية لاستئناف جهود المصالحة، ومشروع آخر لا يتم إلقاء الضوء عليه في الإعلام العربي، رغم وجوده بشكل مكثف في كواليس وأروقة الاجتماعات الأميركية والصهيونية ومناقشته عبر وسائل الإعلام ومراكز الفكر الغربية، وهو مشروع أميركي "إسرائيلي" إماراتي.
وقبل مناقشة المشروعين، ينبغي إلقاء الضوء على عدة ملاحظات بخصوص وضع القطبية الدولية وحدود تأثير الانتخابات الأميركية والفارق بين المرشحين في التأثير على الصراع، وكذلك الفارق بين تصور العدوّ لليوم التالي وتصور المقاومة، ثمّ تقييم المشروعين الرئيسيين، الصيني والإماراتي:
أولًا: وضع القطبية الدولية
رغم كلّ الملامح التي تتّجه بنا إلى عالم متعدد الأقطاب، إلا أن الحقائق العلمية لا تقول إن العالم أصبح في طور التعددية القطبية بعد، وإنما الأدق هو أنه في طور الثنائية القطبية بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، ولم تستطع القوى الصاعدة أو التكتلات الناشئة احتلال مركز القطب العالمي بعد بلحاظ شروط القطبية المتمثلة في هيمنة العملة وحجم الناتج الإجمالي والميزانية العسكرية وانتشار القوى وحجمها.كما أن أميركا لا تزال القطب الأقوى ولو بفروق صغيرة، ولو أنها أيضًا في طور التراجع والأفول.
ولا شك أن الصين تزاحم أميركا بقوة، وهذه المزاحمة وصلت إلى الدخول على ملفات كانت في السابق حصرًا بيد الولايات المتحدة، وأهمها الصراع مع العدوّ الصهيوني والملف الفلسطيني، والذي تمثل أخيرًا باتفاق بكين بين الفصائل الفلسطينية، وهو انعكاس لتراجع الدور الأميركي بعد انكشاف الانحياز الأعمى للكيان وقيادة حرب الإبادة في غزّة وأنها ليست وسيطًا مقبولًا وإنما تمارس الوساطة بحكم القوّة وحكم هيمنتها على الأنظمة الرسمية التي تسوغ لها هذا الدور.
ثانيًا: حدود الانتخابات الأميركية
تاريخيًّا لا يمكن التعويل على التغيير في الولايات المتحدة باعتباره يصب في صالح قضايا المقاومة، حيث تناوب الحزبان التقليديان، الديمقراطي والجمهوري، على الحكم، وكلاهما يعمل لصالح الهيمنة ولصالح الكيان الصهيوني، بل أصبح الانحياز للكيان ودعمه مادة للتنافس الانتخابي بين المرشحين.
ثالثًا: محدّدات المقاومة لليوم التالي
اليوم التالي في غزّة الذي يعكس انتصار المقاومة، هو فشل العدوّ في تحقيق أهدافه بسحق المقاومة وتنفيذ تدابير في غزّة تجعل منها بقعة جغرافية تابعة لهيمنة الكيان ومرهونة بسيطرته على مفاصل القرار، وبالتالي هو اليوم الذي يحتفظ بحكم يعكس إرادة الشعب الفلسطيني وأشواقه للتحرر، ويوم يحتفظ بالمقاومة وخيارها وقدرة المقاومة على تنفيذ هذا الخيار.
رابعًا: محدّدات العدوّ لليوم التالي
من تصريحات نتنياهو ومن القدر المتفق عليه بين الفرقاء السياسيين في الكيان ومن تصريحات وممارسات أميركا، فإن اليوم التالي الذي يحقق انتصار العدو، هو اليوم الذي يشهد وصاية سياسية وعسكرية على غزّة، وعدم الربط بين غزّة والضفّة والقدس، وحصارًا تامًّا للمقاومة وعدم السماح ببناء القوّة، ووجود حكم تابع للعدو على غرار حكومة التنسيق الأمني في رام الله والتي تلاحق المقاومين وتعمل مرتهنة لأموال الضرائب التي يبتز العدوّ بها السلطة لتبقى تابعة ومرتهنة.
خامسًا: المشروع الصيني وأهدافه
بإلقاء الضوء على جوهر اجتماعات بكين والتي شاركت بها فصائل المقاومة، فإن ما رشح للإعلام، يفيد بأن حماس وفتح وفصائل سياسية فلسطينية أخرى اتفقوا على رؤية لحكم قطاع غزّة بعد الحرب، ووقعت الفصائل إعلانًا مشتركًا يوضح عزمها تشكيل "حكومة وحدة وطنية مؤقتة" مسؤولة عن حكم قطاع غزّة والضفّة الغربية.
وينص الاتفاق على أن حكومة تضم حماس ستتولى حكم قطاع غزّة والضفّة الغربية إلى أن يتم إجراء الانتخابات في موعد مستقبلي غير محدّد.
كما ورد أن الإعلان لا يتناول الطرف الذي يحتفظ بالسيطرة الأمنية على قطاع غزّة، وقد أصرت حماس على أنها ستحتفظ بجناحها العسكري. وصرح حسام بدران، المسؤول البارز في حماس، أن حكومة الوحدة الوطنية ستشرف على إعادة إعمار قطاع غزّة، وإدارة شؤون الشعب الفلسطيني، وتوفير "حاجز هائل" ضدّ التدخل الإقليمي والدولي في حكم قطاع غزّة.
وهنا فإن هذا المشروع يحقق الربط اللازم بين غزّة والضفّة ويحتفظ بحماس وجناحها العسكري ويحارب الوصاية والتدخل في شؤون القطاع.
سادسًا: المشروع الإماراتي الأميركي "الإسرائيلي"
تناولت المواقع الاستخبارية الغربية وبعض وسائل الإعلام، مشروعًا مضادًّا، وهو مشروع أميركي إماراتي "إسرائيلي"، وما رشح عنه يفيد بأن الولايات المتحدة و"إسرائيل" والإمارات العربية المتحدة، تطرح رؤية بديلة لحكم قطاع غزّة بعد الحرب، تتعارض مع رؤية اجتماع بكين.
وقالت مصادر "إسرائيلية" إن وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد نظم اجتماعًا مع كبار المسؤولين الأميركيين و"الإسرائيليين"، من بينهم مسؤولو الدفاع "الإسرائيليون" المسؤولون عن "خطط اليوم التالي" لقطاع غزّة، في 18 تموز/يوليو. ونشر المبعوث الخاص لعبد الله بن زايد إلى الأمم المتحدة مقترحًا لحكم قطاع غزّة بعد الحرب قبل وقت قصير من الاجتماع، وأشار إلى أن الإمارات يمكن أن ترسل قوات مسلحة لدعم مهمّة "استقرار" متعددة الجنسيات في قطاع غزّة.
وقد حددت الإمارات أنها لن ترسل قوات إلا بدعوة من السلطة الفلسطينية، ويبقى للولايات المتحدة دور قيادي في قطاع غزّة بعد الحرب. ويتضمن جزء من خطة الإمارات العربية المتحدة تعيين سلطة فلسطينية تم إصلاحها بقيادة رئيس وزراء مستقل لحكم قطاع غزّة بعد الحرب، وتظل السلطة الفلسطينية هي الأكثر تأثرًا بفتح، التي وقعت للتو إعلان حكومة الوحدة الوطنية مع حماس. ومع ذلك، تضغط الإمارات العربية المتحدة من أجل تعيين مسؤولين من خارج فتح، مثل رئيس الوزراء الفلسطيني السابق سلام فيّاض، لرئاسة الحكومة.
وهنا نرى أن الخطة الأميركية "الإسرائيلية" الإماراتية تسعى لتحقيق أهداف الحرب "الإسرائيلية" من خلال حماية البدائل الناشئة غير حماس في قطاع غزّة. كما تمكّن قوات أمنية غير تابعة لحماس ومدعومة من الإمارات العربية المتحدة من السيطرة على الأمن في قطاع غزّة وهو ما يحقق أهداف الحرب "الإسرائيلية" لأنها ستكون قادرة على محاربة قوات المقاومة والسعي لتمكين عملية الانتقال إلى سلطة تابعة للكيان ومعادية للمقاومة.
سابعًا: الرهان الحقيقي بيد المقاومة
تبقى الرهانات بيد الصمود وبسالة المقاومين وإرادتهم في غزّة والضفّة وعلى كامل قوى إسناد جبهة المقاومة، ولا رهانات على عوامل خارجية ولا انتخابات أميركية، وكانت رسالة الهدهد 3 التي تم تصوير الأهداف بها لأول مرة في تاريخ الكيان وأثناء وجود نتنياهو في أميركا خير دليل على اقتدار المقاومة ومصداقيتها وإصرارها على النصر.