آراء وتحليلات
إفريقيا.. العمق الجيواستراتيجي للمصالح التركية
بصورة مفاجئة، تم الإعلان من قبل الجانب الرسمي التركي عن استعداد أنقرة لإرسال قواتها العسكرية بهدف دعم القوات الصومالية في البحر الأحمر بعد توقيع البلدين في الثامن من شهر شباط/فبراير الماضي اتفاقية "إطار التعاون العسكري والاقتصادي"، والتي عدت من الاتفاقيات الاستثنائية وغير المسبوقة التي توصلت إليها تركيا مع دولة أخرى، كونها منحت تركيا نفوذًا عسكريًا شبه كامل على الصومال، برًا وبحرًا وجوًا.
هذا الإعلان الذي ينتظر موافقة البرلمان التركي عليه، بعد إرسال مذكرة رئاسية موقعة من الرئيس رجب طيب إردوغان يطلب فيها الحصول على إذن لنشر قوات من الجيش التركي في الصومال، بما يشمل المياه الإقليمية الصومالية، جاء على أثر إرسال سفينة استكشاف تركية للتنقيب عن النفط والغاز الطبيعي في 3 مناطق قبالة السواحل الصومالية، وفي ظل ما يشهده البحر الأحمر من تصعيد عسكري غير مسبوق، إلا إنه يطرح في الوقت ذاته، تساؤلات تتعلق بالدور التركي المتزايد والمتنامي في القارة السمراء، والأبعاد الجيواستراتيجية لهذا التوسع.
في الواقع بدا جليًا تبلور معالم اهتمام السياسة الخارجية التركية بتطوير علاقاتها مع الدول الإفريقية ولا سيما العلاقات الاستراتيجية الاقتصادية منذ عام 2003، وفق ما أشار إليه موقع وزارة الخارجية التركية، وتجلى ذلك فيما بعد على الجانب السياسي والدبلوماسي، من خلال تمكّن أنقرة من أن تصبح في عام 2005 عضوًا مراقبًا في الاتحاد الإفريقي، لتعلن في العام ذاته عن خارطة جديدة لعلاقاتها الدبلوماسية الخارجية تحت عنوان "الانفتاح على إفريقيا". بعد ذلك تحولت تركيا لشريك استراتيجي للاتحاد الإفريقي عام 2008، وعقدت في العام ذاته أول قمة للشراكة التركية - الإفريقية في إسطنبول، روجت من خلالها أنقرة لشعارات تؤكد تعزيز علاقاتها مع الدول الإفريقية مثل "المستقبل المشترك" و"التعاون" و"التضامن" بين الأطراف المشاركة فيها، ليتوالى بعد ذلك توطيد العلاقات الدبلوماسية ضمن تطبيق استراتيجية التقارب التركية مع دول القارة السمراء من خلال زيادة الحضور الدبلوماسي والتعاون الاقتصادي، إذ ارتفع عدد السفارات التركية في إفريقيا إلى 46 سفارة وقنصلية نهاية عام 2023، بعدما كانت 12 سفارة وقنصلية عام 2002. في المقابل ارتفعت السفارات والتمثيليات الدبلوماسية الإفريقية المعتمدة في تركيا من 10 سفارات عام 2008، إلى 41 سفارة في 2022، لتحتلّ بذلك تركيا المكانة الرابعة من بين الدول الأكثر تمثيلًا في القارة الإفريقية، بعد الولايات المتحدة والصين وفرنسا.
وقد استغلت تركيا مجموعة من العوامل والتطورات لتوسيع نفوذها في الخارطة الجغرافية السمراء، من خلال استخدامها آليات وأدوات سياستها الناعمة، في توظيف هذه العوامل والتطورات، التي يتمثل أبرزها في:
- تمكّن تركيا من بناء نظام سياسي واقتصادي فاعل جرى العمل عليه منذ مطلع الألفية الجديدة، شكل نموذجًا مغريًا للكثير من الدول الإفريقية الساعية لامتلاكه، بهدف التخلص من تبعات الاستعمار والوصاية، ومعالجة آثار الأزمات العنفية المسلحة، والسعي للاستفادة من ثرواتها وإمكاناتها لرفع معدلات نموها الاقتصادي والوصول لتنمية مستدامة، بهدف الخروج من عنق التخلف والفقر.
- حاجة النظامين الاقتصادي والسياسي في تركيا للبحث عن خيارات خارجية لتوسيع نفوذهما، بهدف التخلص من تبعات الأزمة الاقتصادية التي عصفت بتركيا من ناحية، ولتكريس الدور التركي السياسي والدبلوماسي، في مسار النظامين الدولي والإقليمي، كقوة فاعلة ضمن توازنات القوى الآخذة في التشكّل والتبلور وإثبات الذات، بما يحول تركيا "الجغرافية والموقف" من قوة فاعلة إقليميًا لشريك قوي دوليًا.
- وجود عوامل إيديولوجية مشتركة، تدفع تركيا للاستفادة منها وتوظيفها لتوطيد العلاقة، أبرزها الإرث التاريخي للسلطنة العثمانية في كثير من الدول الإفريقية التي كانت تمتد إليها، إضافة للعامل الديني، والرفض التركي للتدخلات العسكرية الغربية ومجموعة "ايكواس" في الدول التي شهدت انقلابات مثل مالي وركينا فاسو والنيجر.
وفي إطار سعي تركيا لتوسيع نفوذها في القارة الإفريقية، لتحقيق مصالح جيواستراتجية، على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، فإن الدبلوماسية التركية، جهدت لتصدير نفسها لهذه الدول كبديل عن الغرب الاستعماري، من خلال تبني ما يعرف في علم السياسة بـ" السياسة الناعمة" التي تعتمد على الاقتصاد والإعلام والثقافة والدين في بعدها السياسي والدبلوماسية للتغلغل داخل نطاق الدولة أو النطاق الإقليمي.
ولا يمكن إغفال قدرة تركيا على التغلغل من خلال هذه الأدوات للعمق الإفريقي، رغم زحمة الصراعات ما بين القوى الكبرى التي استطاعت الدبلوماسية التركية تجاوزها والتمدد لهذا العمق، وفق ما يلي:
أولًا - على الصعيد الاقتصادي:
كان حرص تركيا واضحًا في الاستفادة من ثروات القارة الإفريقية لتعزيز وضعها الاقتصادي، ولا سيما أنها تمتلك البنى والقدرات والإمكانات التي تؤهلها لذلك، ويمتلك السوق الإفريقي المساحة الشاسعة لتلقف الاستثمارات بمختلف أنواعها. وبالاستنادة للغة الأرقام، فإن قيمة التبادل التجاري بين تركيا وإفريقيا قد بلغت 40 مليار دولار في نهاية عام 2023، بعدما كانت عند مستوى 5.4 مليار دولار في 2003، أي بمعدل زيادة بلغ 8 أضعاف، وتقدر الاستثمارات التركية في إفريقيا بنحو 10 مليارات دولار، إلى جانب استثمار 85.5 مليار دولار في مشاريع تشمل رواد أعمال أتراك. وما يجعل الاستثمارات التركية مفضلة لدى الدول الإفريقية هو حرصها على توظيف اليد العاملة المحلية، فبعض التقديرات غير الرسمية تذهب إلى أن الاستثمارات التركية التراكمية في إفريقيا نجحت في توفير نحو 100 ألف فرصة عمل. كم أن تركيا أسهمت في تنفيذ أكثر من 1150 مشروعًا في مجالات مختلفة للبنية الأساسية التحتية، من الجسور والمشافي والطرقات والتجمعات السكنية وتوسيع الموانئ والمطارات وغيرها بتكلفة إجمالية ناهزت 70 مليار دولار. وتصل الخطوط الجوية التركية إلى 62 وجهة إفريقية، بما في ذلك الصومال التي كانت الخطوط التركية أول من عادت إليها عام 2012 بعدة فترة صراع أهلية، وقامت بتأهيل المطارات هناك.
ثانيًا - على المستوى الديني والاجتماعي:
سعت تركيا على مدى عقدين من الزمن وفي إطار استثمارها بالبنى التحتية، لاستقطاب تأييد شعبي لها في إفريقيا من خلال زيادة فروع مؤسسة "المعارف" الدينية التركية، التي أنشأت أكثر من 140 مدرسة ومؤسسة في 44 دولة، تستقبل ما يزيد عن 18 ألف طالب سنويًا، كما شرعت هذه المؤسسة في التدخل بانتقاء أئمة المساجد التي بنتها تركيا، وتحديد معالم خطاباتهم وتوجيهاتهم الدينية، ومنحت تركيا خلال الأعوام الستة الماضية ما يقارب 60 ألف إفريقي منحًا جامعية في تركيا. كما أن الاعلام التركي من خلال البث الفضائي ومواقع الانترنت، استطاع التوغل في دول القارة السمراء باللغات التركية، فعلى سبيل المثال تعد قناة "NTR TV" الأكثر رواجًا في القارة بالوصول إلى 49 دولة إفريقية.
ثالثًا - على المستوى العسكري:
عقدت تركيا العديد من الاتفاقيات الدفاعية مع الدول الإفريقية مثل الصومال في العام 2017، قبل أن تطوّرها لدفاع مشترك في شباط/فبراير 2024، وليبيا في العام 2019، وكذلك مع كينيا ورواندا وإثيوبيا ونيجيريا وغانا وتوغو. وتمتلك تركيا قاعدتين عسكريتين في الصومال وجيبوتي منذ العام 2017، وهو ما أتاح لمجمع الصناعات التركية إبرام عقود مع هذه الدول، ولا سيما في مجال المسيّرات التي سلمت تركيا أعدادًا منها لبعض الدول مثل بوركينا فاسو ومالي والنيجر. حتّى ضمن هذا المستوى تسعى تركيا لتوسيع دورها كون ما تنتجه من مسيّرات مرغوبًا في الحرب ضدّ الإرهاب لدقتها وزهد ثمنها، وهي بخلاف الدول الغربية لا تجعل مساعداتها وصفقاتها مشروطة.
بناء على ماسبق هناك العديد من الأهداف الداخلية والخارجية التي سعت تركيا لتحقيقها من خلال توسيع نفوذها في القارة الإفريقية، من أبرزها رغبة النظام القائم برئاسة أردوغان على إعادة حلم السلطنة العثمانية ولكن من خلال أدوات الحرب الناعمة، بعد تعرض مشروعها العسكري في سورية والعراق وليبيا لانتكاسة، كما إن تركيا تسعى لتنمية دورها على الصعيد الدولي وهو م ايفسر أداءها لدور الوساطة في أوكرانيا، ودور الحليف للناتو والشريك التجاري لروسيا والصين في الوقت ذاته، لذلك فإن إفريقيا باتت تشكّل العمق الحيوي للمصالح الجيواستراتيجية التركية.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024