آراء وتحليلات
قراءة في حقيقة الصراع الداخلي الأميركي وانعكاساته
شكلت الأحداث المتتالية التي شهدتها الجبهة الداخلية الأميركية والمتعلّقة بشكل رئيسي بالانتخابات الرئاسية المقبلة موضع اهتمام ومفاجأة للكثير من المتابعين خاصةً أنها تجري في بلدٍ استفرد بقيادة العالم والهيمنة طوال ثلاثة عقود مضت منذ تفكك الاتحاد السوفييتي وسقوط المعسكر الشرقي.
ومنذ أن تمكّن الرئيس الأميركي السابق والمرشح الحالي للانتخابات عن الحزب الجمهوري دونالد ترامب من الفوز بالانتخابات التمهيدية لحزبه توالت الأحداث بسرعة بدءًا من المناظرة التي جمعته مع الرئيس الحالي والمرشح السابق للحزب الديمقراطي جو بايدن، ومرورًا بمحاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها ترامب، ثمّ تنحي بايدن عن الترشح تحت ضغط المتبرعين ورموز الحزب الديمقراطي، ووصولًا لتسمية ترامب لنائبه جي دي فانس، وانتهاءً بطرح رموز الحزب الديمقراطي لنائبة الرئيس الحالي كامالا هاريس مرشحة بديلة عن بايدن لمواجهة ترامب في السباق الرئاسي.
منطقيًا فإنه لا يمكن النظر إلى تلك الأحداث بشكل منفصل عن بعضها بعضًا، كما أنه من غير المنطقي استبعاد نظرية المؤامرة عند قراءتها سواء من حيث المضمون أو التراتبية التي توالت فيها تلك الأحداث.
يمكن النظر إلى الانتخابات الرئاسية المقبلة على أنها الأكثر أهمية في تاريخ الولايات المتحدة، ويرجع ذلك لسبب واحد على الأقل متعلّق بأهمية المرحلة التاريخية والمفصلية التي يشهدها العالم في تحوّلاته من الأحادية إلى التعددية القطبية، وما يرافق ذلك من صراع هوياتي وآيديولوجي بدأت ملامحه في الظهور في السنوات الأخيرة سواء على المستوى العالمي أو في الداخل الأميركي.
ويمكن الإشارة إلى هذا الصراع في الداخل الأميركي باعتباره يشكّل الدافع والمحرك الرئيسي للأحداث المتتالية التي شهدتها الساحة الداخلية الأميركية على الصعيد الانتخابي والتي ذكرناها في بداية المقال، وليس صحيحًا أن الصراع داخل الولايات المتحدة لا يعني منطقتنا التي كانت ولا زالت المنطقة الأكثر أهمية في تاريخ العالم وتحولاته.
لم يعد خافيًا أن الانقسام في الداخل الأميركي ظهر للعلن وبشكل واضح مع وصول ترامب للبيت الأبيض في العام 2016، حين أعلن في خطابه الأول أنه يريد نقل الولايات المتحدة من العولمة إلى الوطنية، وبدأ باتّخاذ قرارات بهذا الخصوص، وكاد أن يتخّذ قرارًا بالانسحاب من حلف الناتو وما يعنيه ذلك من ضرب لمفهوم الأطلسية لولا أن تمكّن منه دعاة النيوليبرالية والعولمة الذين يمثلون الدولة العميقة الحاكمة بشكل فعلي، وأسقطوه في الانتخابات الرئاسية في العام 2020 التي شهدت أحداثًا دراماتيكية ولم تخلُ من التزوير والعبث، وجاؤوا بالرئيس الحالي بايدن، وسخّروا فترة ولايته من أجل لملمة ما خربه ترامب في نظرهم سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي.
شكّلت المناظرة الأولى والوحيدة بين بايدن وترامب نقطة تحول في المواجهة بين الجانبين، وبشكل مفاجئ ومنذ تلك المناظرة تولّت وسائل الإعلام التي يسيطر عليها الليبراليون الترويج لنائبة الرئيس كامالا هاريس كمرشح إنقاذي وبديل عن بايدن، وفي ذات الوقت روّجت أيضًا تلك الوسائل الإعلامية لحالة الصدمة والأداء السيئ الذي أظهره بايدن في المناظرة على اعتباره شكل مفاجأة. وحقيقة الأمر هو أن الحالة الصحية لـبايدن لم تكن مفاجئة كما جرى تصويره، كيف ذلك والعالم بأجمعه شهد زلّاته وتخبطه الجسدي والعقلي منذ دخوله للبيت الأبيض؟ غير أن الليبراليين أدركوا منذ البداية أنه لو خاضت كامالا هاريس الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي لما كان لها أن تفوز بترشيح الحزب مطلقًا، لذلك كان لا بد من أن يرشح بايدن نفسه ويستمر بذلك لما قبل شهر واحد من المؤتمر العام للحزب الديمقراطي ثمّ يسحب ترشيحه بدواعي حالته الصحية ليتم فرض كامالا هاريس مرشحةَ الضرورة الإنقاذية للحزب الديمقراطي دون اللجوء لانتخابات حزبية تمهيدية، وكلّ ذلك جرى التخطيط له بدقة بالتوازي مع التخطيط لاغتيال ترامب قبيل المؤتمر العام للحزب الجمهوري لتكون الطريق معبدة لوصول هاريس للبيت الأبيض.
يركّز الجمهوريون عند انتقادهم لنائبة الرئيس كامالا هاريس على اتهامها بأنها أكثر ليبرالية وأقل كفاءة من جو بايدن، وأنها المسؤولة الفعلية عن ملف الهجرة غير الشرعية الذي يشكّل واحدًا من أهم العوامل المؤثرة على الناخب الأميركي. وللاستدلال على ليبرالية كامالا هاريس يمكن العودة لما قالته في أحد خطاباتها في ولاية ماريلاند: "عندما نستثمر في الطاقة النظيفة والمركبات الكهربائية ونعمل على خفض عدد السكان، فإن المزيد من أطفالنا يستطيعون تنفس هواء نظيف وشرب مياه نظيفة". وقد شكّل هذا الخطاب في حينه صدمة لدى الأميركيين وخاصة ما يتعلق منه بخفض عدد السكان، مما اضطرّ البيت الأبيض للتراجع والتبرير بأنها كانت زلة لسان، وأن ما قصدته كان خفض التلوث وليس خفض عدد السكان.
غير أن هذا التبرير لم يكن كافيًا خاصة أن ما قالته هاريس يتقاطع مع كلام سابق لأحد زعماء الليبرالية بيل غيتس الذي قال شيئًا مماثلًا في العام 2010: "إن هدفنا الأساسي الفعلي ليس مجرد التحكم في الكربون من أجل البيئة ولكن تقليل عدد سكان العالم من خلال اللقاحات وإزالة الصناعة من خلال تغير المناخ، وإذا بذلنا جهودًا عظيمة في مجال اللقاحات الجديدة والرعاية الصحية وخدمات الصحة الإنجابية، فقد نتمكّن من خفض عدد سكان العالم بنحو 10 أو 15 في المائة".
إذًا، الليبرالية المتوحشة تزجّ بكلّ إمكانياتها في هذا الصراع، وإذا قدّر لها وانتصرت، فعلى العالم أن يستعد لصراع طويل مع أخبث أيديولوجيا تواجه البشرية منذ نشأتها، ولا يقتصر ذلك على مفاهيم المناخ وخفض عدد السكان والصحة العامة، بل يتعداه إلى العبث بالجنس البشري ونشر الشذوذ، وانعكاس ذلك على المجتمع والأسرة.
وعلى الصعيد العالمي تشكّل الحرب الأوكرانية نموذجًا وانعكاسًا للصراع الداخلي الأميركي، ففي الوقت الذي يتبنى فيه الديمقراطيون الليبراليون قيادة الحرب بالوكالة التي يشنها الغرب الجماعي على روسيا عبر عميلهم "الرئيس الأوكراني زيلينسكي، الذي تحول إلى إحدى الأدوات الليبرالية، فإن الجمهوريين يتبنون مسار المصالحة والشراكة والتقارب مع روسيا التي أعلن رئيسها صراحة عداءه للمفاهيم النيوليبرالية.
وبمفهوم جيوسياسي أوسع؛ فإن الديمقراطيين النيوليبراليين يعتمدون استراتيجية تهدف لإعادة الأحادية القطبية والهيمنة الأميركية على العالم عبر الناتو والأطلسية وإنشاء أحلاف جديدة حول العالم، بينما يعتمد الجمهوريون المحافظون استراتيجية أقرب إلى الشراكة العالمية والاعتراف بالتعددية القطبية إلى جانب روسيا والصين، وتهميش القوى الأخرى الصاعدة بما فيها أوروبا.
أخيرًا؛ لا بدّ من الإشارة إلى أمرين رئيسيين؛ يتعلق الأول بديمومة الصراع في الداخل الأميركي، وهو ما دلّت عليه أحداث كثيرة طفت على السطح في السنوات الأخيرة، والثاني يتعلق بمنطقتنا العربية وعالمنا الإسلامي وضرورة البناء على القدرات وعناصر القوّة الذاتية والتشبيك الجيوسياسي الإقليمي والعالمي وفقًا لمصالح شعوب المنطقة وبما بتناسب مع هويتها والأيديولوجيات السليمة التي تعكس تاريخها وإنسانيتها.
الولايات المتحدة الأميركيةدونالد ترامبجو بايدن