آراء وتحليلات
من يملك الردع اليوم؟
هل تقع الحرب فعلًا على جبهة شمال فلسطين المحتلة؟ وهل يجرؤ الكيان على الدخول البري إلى أرض لم يذق فيها إلا كؤوس المنايا والمهانة والإذلال؟ ثمّ هل تتورط الولايات المتحدة المشتبكة في 3 صراعات ساخنة حول العالم بفتح جبهة جديدة، لا يعلم أحد على وجه اليقين كيف سيكون شكلها أو مدى عمقها أو قدرتها على اجتذاب المزيد من القوى الفاعلة المؤثرة إلى ساحتها المتمددة بالأصل؟ وهل سيكون جيش العدوّ المنهك والمستنزف قادرًا بالفعل على القيام بجهد بري هائل، يتمثل في حشد عدة فرق مدرعة وعدد آخر من ألوية النخبة، للدفع بها إلى جنوب لبنان، لمواجهة حزب الله؟
هذه الأسئلة كلها تبدأ بـ "قياس قدرة" العدوّ على فعل عسكري مؤثر، ثمّ تنتهي بـ"تقدير" قوة المقاومة وإمكانياتها واستراتيجيتها في مثل هذه المواقف. للحصول على الإجابة القريبة من المعقولية، ينبغي تطبيق مقولة أشهر منظري الحروب عبر التاريخ الإنساني، الصيني سون تزو: "الإنسان الذي لا يعرف نفسه ولا يعرف عدوه، سيهزم في كلّ المعارك، والإنسان الذي يعرف نفسه، لكنّه لا يعرف عدوه، سينتصر مرة ويهزم مرة، وحده الذي يعرف نفسه ويعرف عدوه، يستطيع أن لا يكون عرضة للخطر في مئات المعارك".
من هذه النقطة تحديدًا يمكن البدء بتحليل اللحظة الحالية الملتهبة في المنطقة، وشمال فلسطين المحتلة بشكل أساسي. أولًا يجب فهم العقلية الصهيونية، وما يحكمها من ثوابت استراتيجية لا تقبل التفريط فيها، ثمّ عقيدتها التي تحكم أفعالها أو ردود أفعالها، وفي الأخير، موقفها العسكري على كلّ جبهات القتال بشكل موسع وبانورامي، يتمسك بالشمول قدر حفاظه على الدقة والحياد تجاه الحقائق الموضوعية.
كيان العدوّ منذ إنشائه على الأرض العربية كان يلتزم بالإمساك بقوة "الردع". بالطبع وفر له الغرب الداعم كلّ السبل لامتلاك ناصية قوة مفرطة لا تضاهى، وأمنت له التفوق العسكري على الدول العربية مجتمعة، بحيث يكون الطرف الأكثر قدرة على "الحسم". ونظرًا لوضعه الجغرافي الصغير والمحاصر وسط محيط عربي ضخم، لا يستطيع مهما بلغت قوة سلاحه أو مداه أن يُخضعه بالكامل أو يبتلعه، فإن الفالق التكنولوجي الرهيب بين الغرب وبين العالم العربي قد جعله يملك عنصرًا ثالثًا هو "السرعة". إذًا تكونت عقيدة الأمن الضامنة للبقاء بالنسبة للكيان في الردع - الحسم - السرعة، لكن كيف مارسها الكيان فعلًا وعلى الأرض وفي مواجهة التحديات التي ظهرت أمامه؟
من الغرب مرة أخرى، ومن أشهر منظري الاستراتيجية العسكرية في التاريخ، كارل فون كلاوزفيتز، الذي قال إن الحرب هي السرعة والسرعة والمزيد من السرعة، والجرأة والجرأة والمزيد من الجرأة. القتال هنا يستهدف أبعد من كسر القوّة المسلحة للعدو، إنه يركز على كسر إرادته". هذه الفكرة البسيطة العبقرية قد استلهمها نابليون بونابرت في حروبه الطويلة التي خلدته كفاتح عسكري وقائد من الطراز الرفيع، حين تمكّن بذكاء من توظيف كثافة نيران الجيل الأحدث من سلاح المدفعية مع سرعة فرسانه، ليشكّل قوة ضاربة أطاحت بجيوش أوروبا التقليدية بطيئة الحركة ضعيفة التنظيم، ثمّ أعاد الجنرالان الألمانيان هاينز جوديريان وإريك فون مانشتاين صياغتها في عصر الدبابات والطائرات واضعين فوقها "الماركة المسجلة" للجيش النازي باسم "البليتزكريج" أو حرب البرق.
فكرة حرب البرق بسيطة، قدر ما هي معقّدة، إذ تحتاج إلى كفاءة وتنسيق وتنظيم من طراز رفيع وقادة مدربين على إدارة هذا الجهد الكبير. هذا الطراز من الضباط والقادة كان يتوفر للعدو الصهيوني كما توفر السلاح، حتّى قبل إنشائه عام 1948، بفضل مشاركة الفيلق اليهودي في صفوف الحلفاء المنتصرين بالحرب العالمية الثانية، فهو كيان على شاكلة المباني سابقة التجهيز، تخرج من المصنع ولا يتبقى شيء إلا تركيبها في المكان المختار، والمكان المختار كان أرض فلسطين.
في العام 1948، ثمّ 1956، ثمّ الهزيمة المروعة في 1967، ثمّ نكسة النكسات في 1973، كان الكيان ينفذ خطة شبه محفوظة، لا يتغير فيها شيء تقريبًا سوى مواقع التنفيذ وأهداف الضربات الأولى - الأهم - عن طريق ضربة جوية مثل المطرقة الثقيلة على الرأس، مراكز القيادة والسيطرة وخطوط المواصلات والإمداد ومراكز تجمع القوات المعادية، ثمّ تندفع الدبابات على شكل سكاكين تقطع خطوط الدفاع بأقصى سرعة، ومع السيادة الجوية لسلاح الطيران الصهيوني، فإن كلّ جيش عربي جرب الحرب معه قد أضاف إلى تاريخ وطنه هزيمة جديدة مع الفضيحة، حيث يكون هدف هذا الأسلوب النهائي "كسر إرادة القتال".
من المنطقي أن الكيان الصهيوني يعتبر منذ يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر أن ما حصل كله يهدّد بقاءه. الكيان على المستوى النفسي قبل الاستراتيجي ليس مصممًا للتعامل مع هزائم أو ابتلاعها. الهزيمة الأولى لهم هي الهزيمة الأخيرة، لهذا كان اندفاعهم في عملية إبادة غزّة هو رد الفعل الطبيعي على ثقل الضربة التي أصابت عقولهم ونفذت بشحناتها إلى أعصابهم.
في مواجهة حزب الله شمال فلسطين المحتلة، فإن الحزب استطاع منذ اللحظة الأولى لتدخله يوم الثامن من تشرين الأول تهشيم وكسر وكنس كلّ ما كان يدعيه العدوّ من أساطير أسس عليها سمعته كقوة عسكرية لا تقهر. حطم رجال الله ببسالة وجرأة وشجاعة وسرعة كلّ ما بناه العدوّ خلال 18 عامًا - منذ انتصار تموز 2006 - من جدار دفاعي فائق الإمكانيات، ثمّ انطلقوا إلى تبديل المواقع مع العدو، وعوضًا عن النازحين العرب صارت المشكلة لدى الكيان في نازحي الشمال، وفرض الحزب - قولًا وفعلًا - منطقة عازلة داخل حدود فلسطين المحتلة، ثمّ إن الحزب، وقبل أي شيء، أعاد النبض إلى الجملة الخالدة "إن حزب الله هو أشرف ظاهرة في التاريخ العربي المعاصر"، في حمله وأدائه لأمانة الدفاع عن الأمة ومقدساتها وشعوبها.
تبقى نقطة وحيدة فقط، ما هو متاح أو متصور أمام كيان العدوّ الذي يعوي منذ أيام ويهول بضربة كبيرة على لبنان، هو يعلم قبل غيره أنها ستفتح بوابات الجحيم عليه، فإن أقصى ما يمكن أن يخطط له العدوّ في إطار الحرب القذرة، وهو يجيدها ويتقنها، أن يوجه "ضربة دعائية" ضدّ حزب الله، بحيث لا تستدعي في المقابل خيار الحرب الواسعة من قبل الحزب. هذا التصور أيضًا يندرج تحت بند الأماني الخادعة والأوهام، إذ إن محور المقاومة أثبت طوال 10 أشهر من القتال ضدّ الصهيوني وضد الأميركي أنه لن يقبل بأي انقلاب على نتائج ما تحقق في السابع من تشرين الأول، وأن كسر قواعد الاشتباك لا يعني سوى طحن عظام هذا العدوّ المرتعش.
المقاومة الإسلاميةحزب اللهالكيان الصهيونيالكيان المؤقت
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
29/11/2024