آراء وتحليلات
كورسك.. تقييم وضعية مسرح العمليات الميداني
ملخص حيثيات الهجوم على كورسك
هاجمت القوات الأوكرانية على نحوٍ مفاجئ مقاطعة "كورسك" الروسية المحاذية لحدود شمال شرق أوكرانيا، منطلقة من مقاطعة "سومي" الأوكرانية التي لم تشهد عمليات قتالية منذ انسحاب الجيش الروسي منها ومن منطقة "كييف" و"تشرنيغوف" عقب تفاهمات إسطنبول التي تراجع الأوكرانيون عنها لاحقًا بضغط من بريطانيا وأمريكا.
القوات الأوكرانية مارست خطة تضليل واسعة لإخفاء تحركاتها ونياتها، فقد نشرت قواتها أولاً على الحدود مع بيلاروس المجاورة، الأمر الذي دفع بيلاروس لحشد قواتها على الحدود واستدعاء تجهيزات عسكرية للدفاع عن أراضيها، ليعقب ذلك مرحلة من التفاوض بين الجانبين، أسفرت عن سحب أوكرانيا القوات التي نشرتها بالقرب من الحدود البيلاروسية، واستجابة "مينسك" بدورها لخفض التصعيد وسحبها تعزيزاتها من الحدود.
غير أن هذه الحركة، كما تبين لاحقًا، كانت مناورة لتجميع القوات المنسحبة من الحدود، وإعادة انتشارها في مقاطعة "سومي" الأوكرانية من دون أن يثير ذلك حفيظة القوات الروسية. رغم ذلك وردت تقارير تشير إلى نية الجانب الأوكراني بتنفيذ عملية هجومية في هذا الاتجاه لكنها لم تؤخذ على محمل الجد.
لا يستبعد بعض المراقبين استغلال الأوكرانيين لفترة التغييرات القيادية وحملة التطهير في الدفاع والقوات المسلحة الروسية، والتي طاولت كبار المسؤولين الروس. فاحتمال الخيانة العظمى من قبل متضررين من هذه التغييرات كانوا يديرون الأعمال التجارية العابرة لخطوط الجبهة من الجانبين، واردة، إلا أن حملة التطهير والتغيير لم تؤثر في سير المعارك في اتجاهات أخرى، ما زالت القوات الروسية تحقق فيها تقدماً يوصف بالكبير.
في هذه الأثناء، كانت القوات الأوكرانية في منطقة "الدونباس" تتعرض لهزائم متتالية، وتتراجع تحت ضغط القوات الروسية في عدة محاور، بالإضافة إلى تقدم القوات الروسية المضطرد في مقاطعة "خاركوف"، والتي تضم ثاني أكبر مدينة في البلاد، وتشكل قاعدة صناعية أساسية. ولذا، فإن الضغط عليها والاقتراب منها شكل معضلة كبرى لـ"كييف"، حيث دفعها لتعزيز القوات فيها ورفع جاهزيتها؛ ما ترك أثره في بقية الجبهات، وسهل اختراق الجيش الروسي لقطاعات عريضة من التحصينات الأوكرانية، وبخاصة في محيط مدينة "دونيتسك" التي تتعرض للقصف الأوكراني باستمرار.
وللخروج من الوضع الميداني الحرج، أعلنت كييف عن رغبتها في إجراء مفاوضات مباشرة مع الجانب الروسي لإنهاء القتال. وذلك في تصريحات صدرت عن عدد من المسؤولين الأوكرانيين، ومنهم زيلينسكي نفسه، الأمر الذي تعاملت معه موسكو بازدراء وتشكيك كبيرين.
وقد ساعدت الاتصالات الأوكرانية بالسعودية في تخفيف موقف روسيا المشكك في المفاوضات مع الجانب الأوكراني، وجرى التوافق ضمنيًا على إجراء الاتصالات الأولى في قطر.
هذا التطور لم يرُق لإدارة البيت الأبيض "الديمقراطية" التي رأت فيه تعزيزًا لدور ترامب وحظوظه في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وخاصة بعد تعهده بإنهاء الحرب التي لا يستفيد منها سوى دعاتها من الحزب "الديمقراطي"، بحسب أقواله، والتي "لم تكن لتحدث لو أنه كان هو في السلطة، وأن بايدن الخرف سيدمر العالم".. إلخ...
بيد أن الهجوم الأوكراني على مقاطعة "كورسك" كان مفاجئًا للقيادة العسكرية والسياسية الروسية على حد سواء. فقد حدث خلال الاستعدادات لمفاوضات تنهي القتال، وفي منطقة خارج نطاق العمليات القتالية الأساسية - منطقة توافق ضمني وتقاطع مصالح روسية أوكرانية غربية عابرة لخطي الجبهة، والتي غضّ الجانبان نظرهما عنها طوال الفترة الماضية، ولا سيما أن أنابيب الغاز الروسي تمر منها إلى أوروبا عبر أوكرانيا، وهو شريان الغاز الوحيد المتبقي العامل، ذلك لأنها تؤثر في استقرار أمن الطاقة في أوروبا بأسرها، وأسعار الغاز فيها التي تنعكس على الاقتصاد من نواحيه كافة...
وقد اختلف المحللون في هدف هذا الهجوم الأوكراني المفاجئ: وخاصة أنه استهدف منطقة مدنية غير محمية على نحو كبير، حيث كانت ترابط وحدة صغيرة من حرس الحدود غالبية عناصرها من المجندين في خدمة العلم عديمي التجربة القتالية.
واستهدف منطقة اقتصادية تضم محطة "سودجا" لضخ الغاز الروسي إلى أوروبا الوحيدة المتبقية. واللافت أن إمدادات الغاز إلى أوروبا لا تزال تتدفق عبر أوكرانيا، بصرف النظر عن الهجوم، ولم تتأثر! وبقيت محطة ضخ الغاز رغم بعض الأضرار تعمل كالسابق، ودون توقف.
وعلى الرغم من سيطرة الأوكرانيين من اليوم الأول على مساحة واسعة في المنطقة المحيطة بمدينة "سودجا" حيث تقع المحطة، فإنهم تجنبوا اقتحامها أو الإضرار الكبير بها؛ بشكل يؤدي إلى تعطيلها.
هناك مقولة روسية عسكرية شهيرة ذهبت مثلاً:"الحرب هي الحرب، لكن الغداء في موعده". ويمكن إعادة صياغتها على النحو التالي:"الحرب هي الحرب، ولكن الغاز الروسي عبر أوكرانيا الى أوروبا في موعده".
وعلى خلفية القتال حول "سودجا"، فجرت وسائل إعلام أوروبية مفاجأة من العيار الثقيل، حيث اتهمت أوكرانيا بتفجير خطوط أنابيب السيل الشمالي البحرية التي كان يتدفق الغاز الروسي عبرها إلى المانيا بمعزل عن أوكرانيا وبولندا؛ الأمر الذي عده المراقبون غضبًا أوروبيًا على العملية غير المحسوبة التي أدت إلى ارتفاع أسعار الغاز في أوروبا.
كذلك، فإن المحللين في غالبهم يرون أن الهجوم كان محاولة يائسة، في ظل تقدم القوات الروسية في "دونباس"، لتحسين موقف كييف التفاوضي في أي مفاوضات مقبلة.
وأيًا كانت الأهداف التي سعت كييف لتحقيقها من وراء العملية، سواء أكانت مدفوعة بتحسين مواقعها التفاوضية، أو مدفوعة بضغوط حزب الحرب لإغلاق المجال أمام المفاوضات، كما يرغب "الديمقراطيون". أو لعل الإدارة السياسية والعسكرية الأوكرانية أرادت تخفيف الضغط الهائل على قواتها في "الدونباس"، ودفع الروس لسحب وحدات عسكرية كبيرة لمواجهة غزو الأراضي الروسية، ما يمنح القوات الأوكرانية فسحة لضخ دماء جديدة وتعزيز المواقع. ومهما كان الأمر، يمكن القول، إن التوغل الأوكراني شكل ضربة سياسية ومعنوية لإدارة الرئيس الروسي بوتين، المعروف عنه عدم خضوعه للضغوط، وعدم استجابته للاستفزازات.
والاختراق الأوكراني للأراضي الروسية شكل خديعة للجيش الروسي الذي اعتمد على تفاهمات شفهية وتصورات مخطئة عن استحالة إقدام القوات الأوكرانية على اقتحام الأراضي الروسية. في المقابل، جرى استغلال التوغل الأوكراني لرفع معنويات الشعب الأوكراني والقوات المسلحة المنهارة، بفعل الخسائر الكبيرة على جبهات "الدونباس".
وهناك من المحللين من رأى أن هدف الهجوم الأوكراني الخاطف هو محاولة إظهار قدرة القوات الأوكرانية على تحقيق إنجازات وتقديم كشف حساب لداعميها في الغرب، لاستجداء مزيد من الدعم العسكري والمالي، بعدما انتشرت شكوك في نجاعة المساعدات العسكرية الهائلة التي قدمت لأوكرانيا، في هزيمة القوات الروسية، وخاصة بعد التقدم الكبير في الدونباس.
وهناك من ذهب إلى أن الهدف هو استفزاز روسيا لدفعها للقيام بعمل متهور ضد كييف وتصعيد القتال والانتقال إلى التدمير الممنهج لكل شيء في أوكرانيا، والتسبب في ردة فعل مماثلة لدى الأوكرانيين باستخدام الأسلحة الحديثة البعيدة المدى التي حصلت عليها من الغرب، وبالتالي الانتقال إلى ديمومة القتال حتى في حالة وصول ترامب إلى السلطة. كما أن القسوة التي يفترض أن تواجه بها موسكو الاستفزاز الأوكراني على أراضيها، ستنهي التعاطف الذي تجده موسكو في دول الجنوب العالمي.
وهناك وجهة نظر لبعض المحللين العسكريين الروس إزاء العملية الأوكرانية في "كورسك" تقول إنها عملية لصرف النظر عن الهجوم الأوكراني الرئيسي المقبل، ولتشتيت انتباه روسيا، لكي تفاجأ بالضربة الرئيسة المقبلة. ويرى هؤلاء المحللون أن هذه الضربة أو الهجوم الأساسي سيشن على شبه جزيرة القرم. وأن الهجوم سيبدأ بضربة على جسر القرم الذي بنته روسيا لربط شبه الجزيرة بروسيا؛ أو ربما ستكون الضربة في مقاطعة زابوروجيا التي تضم المحطة النووية الأكبر في أوروبا.
الوضع الحالي
القوات الأوكرانية التي اخترقت الحدود أصبحت محصورة في جيب داخل الأراضي الروسية ويجري العمل على مواجهتها وتدميرها. وخاصة أن القوات الروسية امتصت الصدمة، وتمكنت من استعادة زمام المبادرة، وتمكنت من إيقاف انتشار القوات الأوكرانية باتجاه المواقع الإستراتيجية في المقاطعة. وذلك مع الحفاظ على وضعية القوات وزخم تقدمها في "الدونباس"، وعدم سحب أي تشكيلات عسكرية من الجبهات.
وقد جرى التعامل مع الخرق الأوكراني على أنه عملية إرهابية، وجرى تفعيل نظام مكافحة الإرهاب في مقاطعة "كورسك"، فأعطيت الأوامر للقوات الخاصة الشيشانية لخوض معركة صد العدوان والقضاء على الهجوم الأوكراني. وهنا برز دور قوات "أحمد" الشيشانية ومقاتليها المتمرسين في حرب العصابات والعمليات الخاصة، إذ تمكنوا من إيقاف تقدم القوات الأوكرانية ومن ثم محاصرتها بعد ذلك، والعمل على سحقها.
وأتقن قائد قوات "أحمد" الخاصة الشيشانية "أبتي علاء الدينوف" فن الحرب النفسية، حيث أصبح ظهوره على شاشات التلفزة، وتصريحاته عن العمليات ومقاطع فيديو تدمير وأسر الجنود الأوكرانيين التي ينشرها، عاملاً مطمئنًا ومهدئًا للجمهور والنخب الروسية، ومحبطاً للشارع الأوكراني وقوات نظام كييف العسكرية.
واللافت على نحو خاص هو البرودة التي تعامل بها بوتين مع الاختراق. إذ إن الرئيس الروسي، على الرغم من الضخ النفسي والإعلامي الهائل، بدا متماسكًا منضبطًا خلال حديثه عن كيفية التعامل مع من سماهم "الإرهابيين الذين اخترقوا حدود البلاد".
وبعد أن وعد بوتين بتقييم ما حصل، حدد المهمّة الأساسية للقوات بطرد العدو من المناطق التي احتلها، تزامنًا مع إجراء تحقيق في الأسباب، وتفعيل نظام مكافحة الإرهاب في مقاطعات "كورسك" و"بيلغورود" و"بريانسك".
ماذا بعد
ستشهد الأشهر المتبقية حتى الانتخابات الأمريكية محاولات جديدة لتحسين وضعية القوات الأوكرانية المنهارة، وسيكون الخريف الحالي ساخنًا بنحو خاص. ومن هنا نفهم التلويح الأوكراني بتهديد المنشآت النووية، وتعامل الروس بجدية مع هذه التهديدات إلى درجة إجراء اتصال هاتفي بين وزيري الدفاع الروسي والأمريكي قبل العملية الأوكرانية؛ ومما تسرب إلى وسائل الإعلام يتضح أن الهدف من الاتصال هو إبلاغ الولايات المتحدة بمعرفة الروس بما يعد له الجانب الأوكراني من استفزازات متصلة بالمنشآت النووية. ويبدو أن كييف تراجعت عن هذا التوجه، وخاصة بعد أن بدأ الرعاة الغربيون واحدًا تلو الآخر في التنصل من معرفتهم بالمغامرة الأوكرانية أو مشاركتهم بها.
ما الذي تغير بعد مغامرة كييف في "كورسك"؟. تقريبًا، لا شيء. الهجوم الروسي على طول خطوط الجبهة مستمر. التوغل الأوكراني محدود ويجري العمل على تطويقه وسحقه. القوات الأوكرانية فقدت المبادرة العملياتية. وفقدت كثيرًا من الأفراد والمعدات في المعارك بطريقة لن يكون معها سهلاً تعويض خسائرها؛ وخاصة مع اقتراب الانتخابات الأمريكية.
هذا، وخلال الحرب العالمية الثانية التي يسميها الروس "الحرب الوطنية العظمى"، وقعت أكبر معركة دبابات ومدرعات في التاريخ، في مقاطعة "كورسك"، وسميت بمعركة "قوس كورسك". وقد كانت معركة مفصلية، وشكلت منعطفاً في مسار الحرب العظمى. ويجمع المؤرخون على أنها هي التي حسمت تلك الحرب لمصلحة الاتحاد السوفييتي على حساب ألمانيا النازية. بمعنى آخر، إن الانتصار في "كورسك" مهد لترتيبات النظام العالمي ما بعد الحرب العظمى، والذي عاش العالم في كنفه حتى انهيار الاتحاد السوفييتي وهيمنة الولايات المتحدة الأميركية على المنظومة العالمية..فهل يتكرر المشهد؟!