الخليج والعالم
العراق وإيران بعد زيارة بزشكيان
منذ الإعلان رسميًا عن فوزه بالانتخابات الرئاسية الإيرانية في الخامس من شهر تموز/يوليو الماضي، لم يترك الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان، مناسبة أو فرصة إلا شدّد فيها على أهمية تعزيز وتطوير العلاقات بأطرها الشاملة مع العراق، ولم يترك مناسبة أو فرصة إلا أكد فيها دور العراق المحوري في المنطقة، مشيدًا بمواقفه الرسمية والشعبية، سواء في التقريب بين الخصوم، أو في استضافة ملايين الزائرين كل عام، لإحياء ذكرى أربعينية الإمام الحسين (ع) بالدرجة الأساس، فضلًا عن العديد من المناسبات الدينية الأخرى الممتدة على مدار العام.
ولكي يترجم بزشكيان أقواله وتأكيداته على أرض الواقع، ولا يجعلها مجرد مجاملات سياسية يفرضها ويحتمها موقعه الجديد، فإنه اختار أن يكون العراق محطته الخارجية الأولى، وبالفعل جاء إلى بغداد، ومنها ليزور كربلاء المقدسة، والنجف الأشرف، وأربيل، والسليمانية، والبصرة، بعد ثلاثة أسابيع من نيل حكومته ثقة مجلس الشورى الإسلامي "البرلمان".
وفي واقع الأمر، فالرئيس الإيراني الجديد، ومن خلال زيارته التاريخية المهمة للعراق، لم يبدأ من الصفر، إنما جاء ليكمل ما أنجزه أسلافه من الرؤساء السابقين الذين زاروا العراق، وحرصوا على أن يضعوا أسسًا ومرتكزات رصينة وقوية لعلاقات إستراتيجية تتمحور حول المصالح المتبادلة، والقواسم المشتركة، والتحديات المتماثلة.
ويمكن القول، إن الرئيس بزشكيان جاء لينجز ما كان من المفترض أن ينجزه الرئيس الإيراني الراحل السيد إبراهيم رئيسي الذي لم يمهله القدر لكي يقوم بالزيارة التي كانت مقررة له إلى العراق صيف هذا العام.
وعمل بزشكيان على ثلاثة مسارات في زيارته التي دامت ثلاثة أيام، المسار الأول تمثل بدفع وتيرة العلاقات الإيجابية بين بغداد وطهران، عبر حزمة من مذكرات التفاهم، بلغت أربع عشرة مذكرة، في مجالات الأمن، والتربية والتعليم، والصحة، والزراعة، والصناعة، والمياه، والمناخ، والإعمار، والبيئة، وغيرها.
وتمثل المسار الثاني في تعزيز الثقة، وإزالة العقد والإشكاليات التي حالت أو تحول دون تحقيق التكامل المطلوب في مجمل الملفات المشتركة بين الطرفين، سواء كانت فنية أو سياسية، في حين تمثل المسار الثالث، بتقوية محور المقاومة، بما يساهم في توفير المزيد من الدعم والإسناد للشعب الفلسطيني المظلوم، وإضعاف الكيان الصهيوني الغاصب، وفي الوقت نفسه، مواجهة الهيمنة الأميركية في المنطقة، وما تسببه من فوضى واضطراب وفتن وأزمات.
وبما يتعلق بالمسار الأول، فإن الرؤية المشتركة لكل من بغداد وطهران، تقوم على أساس استثمار وتوظيف كل الطاقات والإمكانيات والفرص لتحقيق أكبر قدر من المكاسب والمنجزات لكل منهما، حيث حجم التبادل التجاري السنوي الذي يناهز حاليًا العشرة مليارات دولار، يمكن زيادته إلى مستويات أعلى، وهذا ما نوه إليه بشكل أو بآخر الرئيس بزشكيان، وكذلك رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، وكبار المسؤولين العراقيين الآخرين في بغداد، وأربيل، والبصرة.
ومن شأن هذا التوجه العملي أن يخفف من الضغوطات الاقتصادية على إيران من جانب، وينشط السوق العراقية من جانب آخر، فضلًا عن ذلك، فإن الاقتصاد يعد المفتاح الرئيسي لتفعيل ميادين السياسة، والأمن، والميادين الأخرى.
وفي ما يتعلق بالمسار الثاني، فإنه رغم الأشواط الطويلة التي قطعتها العلاقات العراقية الإيرانية خلال العقدين الماضيين، فإن هناك جملة من المعوقات والعراقيل لا بد من معالجتها والتغلب عليها، بعضها يرتبط بالبيروقراطية والروتين، وبعضها يرتبط بغياب الخطط الإستراتيجية الواضحة، وبعضها يرتبط بالمؤثرات الخارجية، وبعضها يرتبط بضعف التنسيق والتواصل في بعض الجوانب والمجالات.
وأوضح أن بزشكيان جاء ليفكك ويحلحل العقد مع أصحاب القرار في بغداد، عبر خطوات وإجراءات عملية، لا تكتمل في غضون ثلاثة أيام، إنما تحتاج إلى وقت طويل، بواسطة لجان مشتركة متعددة المهام والاختصاصات، تعمل وتتواصل بصورة دائمة. والحرص على الذهاب إلى أربيل والسليمانية والبصرة، وبحث القضايا التفصيلية مع المعنيين هناك بشكل مباشر، يعزز ذلك التوجه العملي الجاد، إلى جانب ذلك، فإن ما يمكن أن نسميه بـ"الدبلوماسية الشعبية" التي استخدمها بزشكيان في زيارته للعراق، عكست في جزء منها طبيعة شخصيته البسيطة والمتواضعة، وعدم تقيده بالسياقات والضوابط البروتوكولية المحددة، وفي جزء آخر منها، انطوت على رسالة مفادها، أن العلاقات بين إيران والعراق، ليست كأي علاقات تقليدية تربط بين بلدين، وتكون محكومة بحسابات المصالح فقط، بل إنها تمتد وتتشعب إلى الكثير من الأبعاد والمساحات الاجتماعية والدينية والثقافية والعقائدية العميقة. تحدثه باللغة الكردية، لوسائل إعلام كردية عراقية حول العلاقات بين إيران وإقليم كردستان العراق، وارتداؤه العباءة العربية في محافظة البصرة، ولقاؤه بنخب اجتماعية وعشائرية مختلفة، وزيارته للعتبات الدينية المقدسة في الكاظمية والنجف وكربلاء، وتجوله بصورة عفوية وسط حشود الزائرين، كلها إشارات مهمة، عبرت عن طبيعة وحقيقة التوجه والمنهج الذي اتبعه.
وبخصوص المسار الثالث، فإن الرؤية العراقية ومعها الرؤية الإيرانية، تتمحوران حول حقيقة أن التحديات والتهديدات والمخاطر التي تواجه عموم دول وشعوب المنطقة، تتطلب مواقف موحدة وقوية ومتماسكة، لا سيما أن مجمل المشهد الإقليمي العام، يمتاز في المرحلة الراهنة بالاضطراب والارتباك، بسبب المجازر الدموية التي يرتكبها الكيان الصهيوني ضد أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، في ظل صمت وتعاطي دولي سلبي فاضح. كما قال الرئيس الإيراني من بغداد "إن أميركا تحاول تشويه الوحدة والتضامن بين المسلمين ودول المنطقة، لكننا نؤمن إيمانًا راسخًا بأننا جميعًا إخوة، وإن جرائم الكيان الصهيوني في غزة لا يمكن تبريرها بأي معيار، والصهاينة يرتكبون جرائم ضد الأبرياء في غزة بأكثر الطرق وحشية، وإذا أراد أهل غزة الدفاع عن أنفسهم، يجري اتهامهم من قبل حماة الكيان الصهيوني بالإرهاب، ولو تعاون المسلمون ودول المنطقة، بإمكانهم تقويض هيمنة العالم الغربي.
ولا شك أن إيران والعراق، يشكلان اليوم سياسيًا وشعبيًا، حجر الزاوية في مواجهة مخططات ومشاريع الهيمنة الأميركية والصهيونية على المنطقة، وكلما ارتفعت واتسعت ميادين التعاون والتنسيق بينهما، بات الوصول إلى الأهداف المرجوة أسرع وأسهل.
باختصار، تبدو الأرضيات والظروف والمناخات مهيأة في هذه المرحلة، أكثر من أي وقت مضى، لإحداث نقلات نوعية مهمة في مسيرة العلاقات العراقية - الإيرانية، والعمل على تحويل التحديات القائمة إلى فرص واعدة. ومجيء الرئيس بزشكيان للعراق قبل سفره المقرر إلى نيويورك، مثل الخطوة الأولى في هذا الطريق، وما أفضت إليه الزيارة من نتائج ومعطيات ومخرجات، يؤشر إلى صدق وجدية النوايا والإرادات والرغبات.
العراقالجمهورية الاسلامية في إيران