آراء وتحليلات
قريباً يعود هوكشتاين بسقف منخفض
عندما تتزامن زيارة آموس هوكشتاين المبعوث الأمريكي إلى لبنان مع زيارة أنتوني بلينكن إلى الكيان، فهذا يعني أن ثمة هدفاً مشتركاً يحتاج تظهيره وتسويقه إلى أكثر من قناة وأكثر من أداة، وطالما أن واشنطن هي من تقود الحرب الدائرة فهذا اعتراف ضمني بتعثُّر الميدان وعلى أكثر من جبهة، وتعثر الميدان يتطلب سرعة التدخل، وتشغيل المحركات الإضافية الاحتياطية لضمان تحقيق الحد الأدنى من الأهداف المعلنة والتي يبدو أنها تبتعد أكثر فأكثر مع كل يوم يمر.
بغض النظر عن عدد المرات التي تكررت فيها زيارة المسؤولين الأمريكيين المذكورين للمنطقة، فإن القراءة المتأنية لتطور الأحداث وتداعياتها توحي بأن المرحلة القريبة المقبلة ستشهد مزيداً من هذه الزيارات، وبخاصة تلك التي يكلف بها هوكشتاين، وهذا يعيد للأذهان الجولات المكوكية التي كان يقوم بها هنري كيسنجر إلى عواصم المنطقة غداة حرب تشرين التحريرية 1973، وكذلك الجولات المكوكية لفيليب حبيب بعد الغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان 1982، ومحاولات الضغط على العواصم لرسم معالم ختامية للحرب تخدم مصالح تل أبيب، ويبدو أن تداعيات هذه الحرب الدائرة أخذت بالتبلور، ونظراً لخطورتها وتجاوز التداعيات المتوقعة القدرة على التحمل، ولذلك تطلب الأمر إرسال الاثنين معاً المبعوث الخاص إلى لبنان بالتوازي مع توجه وزير الخارجية إلى الكيان وتسويق مخرجات تكاد تكون متطابقة، لإيصال رسائل محددة بعينها، ومنها:
• تبني أمريكا لحرب الإبادة التي تشنها "إسرائيل" منذ أكثر من عام، والإصرار على استمرارية الدعم وزيادته، مع التبجح بضمان تحييد إرادة المجتمع الدولي عن القيام بأي فعل.
• التضخيم من أهمية ما حققه جيش الاحتلال والخلل الكبير في موازين القوى لصالح حكومة نتنياهو وبخاصة بعد اغتيال الصف الأول من قادة المقاومة وعلى رأسهم الشهيد الأقدس سماحة السيد حسن نصر الله رضوان الله عليه.
• الإيحاء بأن الخيارات المتاحة أمام المقاومة في غزة ولبنان ضيقة جداً، وعليهما القبول بما يعرض قبل أن يتبخر، فما هو متاح اليوم لن يكون كذلك غداً.
• التربيت على كتف المجرم الأكبر نتنياهو وحكومته العنصرية على هذا المستوى غير المسبوق من الإجرام والمجازر، والاطمئنان إلى قدرة العصا الأمريكية الغليظة على حماية القتلة والمجرمين من أية مساءلة أو تداعيات.
• طمأنة الداخل الاستيطاني والتخفيف من هواجسه واضطرابه، ومحاولة عزل الأصوات الداخلية التي تحذر من المجهول الذي يقود نتنياهو الكيان إليه.
• تعميم الإحباط واليأس في صفوف جمهور المقاومة وبيئتها الحاضنة، ومحاولة خلق انقسامات إضافية جديدة بين شرائح الشعب اللبناني الذي وقف بغالبيته مع المقاومة والدور المشرف الذي تقوم به في الدفاع عن كل لبنان بجميع مكوناته.
• إيصال رسالة صارمة إلى بقية القوى الكبرى والقادرة على التدخل الإيجابي بمضمون واضح وصريح: كل ما يتعلق بمسألة الصراع في المنطقة هو شأن أمريكي صرف، ولن يسمح لأية جهة بالتدخل إلا تحت العباءة الأمريكية، وهذا يؤكد بأن الحرب الدائرة بكل بشاعتها وتداعياتها حرب أمريكية تخوضها "إسرائيل" بتكليف رسمي من حكومة الظل والدولة العميقة، وهذا العنوان يجب أن يكون واضحاً للجميع في المنطقة وخارجها.
غالبية هذه النقاط والرسائل كانت معروفة بشكل أو بآخر قبل الزيارة المزدوجة، والعودة لتأكيد المؤكد لا يكون عفو الخاطر، وبخاصة أن وسائل الإعلام تناقلت بأن المسؤولين الأمريكيين لم يكونوا على السمع في الأسابيع القليلة السابقة، فما الطارئ الذي فرض إعادة الزخم وتقاطر المسؤولين الأمريكيين، والعودة لتخدير الرأي العام بما يسمى "المزيد من الجهود" للتوصل إلى وقف إطلاق النار، في الوقت الذي يدرك فيه الجميع أن واشنطن قادرة على فرض هذا الأمر بأقل من أربع وعشرين ساعة لو كانت جادة فعلاً في بلوغ ذلك؟
الجواب المباشر والواضح والبسيط الذي لا يحتاج إلى كثير من التفكير والتحليل يتجسد في الميدان والمستوى الإعجازي من الأداء القتالي الذي فرضته المقاومة على امتداد الحدود الجنوبية للبنان، وكذلك في غزة، ومن المهم التذكير هنا ببعض العناوين الرئيسة والأفكار العامة، ومنها:
أ ـــ السرعة القياسية في قدرة حزب الله على امتصاص الضربات الكارثية التي تلقاها، والنجاح في ترميم بنيته التنظيمية، وإعادة التواصل اللحظي بين المجموعات القتالية التنفيذية في أرض الميدان والمستوى القيادي الأعلى.
ب ــــ قدرة الجسم العملياتي المنتشر على خطوط التماس الأولى على صد واستيعاب الهجوم البري رغم شراسته، ورغم الإمكانيات والقوى والوسائط المسخرة لفرض التوغل، وهي كفيلة باختراق جبهات لجيش جرار وبأعماق يحددها العدو المهاجم كما يشاء، لكن حسابات بيدر المهاجمين جاءت متناقضة مع حسابات حقول المقاومين الميمونة والحبلى بالكثير من الغلال التي لما تتظهر بعد، ولما تخرج للعلن.
ج ـــ قدرة مقاومي الحزب على استعادة زمام المبادرة بسرعة قياسية، وتحول الكثير من القوات المهاجمة إلى أهداف متحركة، لكنها سرعان ما تسقط في الأفخاخ والكمائن المجهزة مسبقاً أو الآنية وفق ما يتطلبه الميدان، وهذا ما رفع سقف الخسائر بالأرواح والمعدات، وأرغمت جنود الاحتلال الإسرائيلي على استعادة صور مجزرة الدبابات في وادي الحجير وبقية النقاط الحدودية في حرب تموز وآب 2006م.
د ـــ استنفاد بنك الأهداف لدى سلاح الجو الإسرائيلي، وإعادة قصف الأهداف التي سبق قصفها أكثر من مرة من دون أية نتائج ميدانية صالحة للبناء عليها، وبكلام آخر: فشل سياسة الأرض المحروقة في تهيئة مسرح العمليات القتالية بما يخدم عمليات الاقتحام والتوغل.
هــ ــــ ازدياد البيئة الحاضنة للمقاومة تمسكاً بقناعاتها ودعمها واحتضانها، والاستهزاء بكل الخسائر المادية مهما بلغت، وتأكيد الاستعداد لدفع الفاتورة بالأرواح والممتلكات مهما ارتفعت، وقد تكامل هذا الموقف المشرف مع مواقف بقية مكونات الشعب اللبناني رسمياً وشعبياً، الأمر الذي سحب البساط من تحت أرجل داعمي نتنياهو وحربه الإجرامية، وفرض معطيات جديدة تنذر بما لا تشتهيه واشنطن وتل أبيب.
و ــــ تردد حكومة نتنياهو في تنفيذ تهديداتها المتكررة باقتراب موعد بدء العدوان على إيران بعد عملية الوعد الصادق2 التي نفذتها طهران رداً على بعض الاعتداءات والجرائم الإسرائيلية استناداَ إلى المادة "51" من ميثاق المنظمة الدولية.
ز ـــ الموقف الإيراني الرسمي الصارم والمتضمن عدم السعي لإشعال حرب كبرى في المنطقة، مع التشديد على حتمية الرد الصاعق على أي اعتداء إسرائيلي مهما كان حجمه ونوعه، والتأكيد على أن البدء بالرد لا يحتاج العودة إلى المستوى السياسي، وإتمام تجهيز وجهوزية كل ما يلزم لضمان التنفيذ.
ح ـــ الإجرام الإسرائيلي الذي تجاوز كل ما قد يخطر على ذهن بشر ترك تداعياته على الموقف الدولي بشكل عام من الانخراط الأمريكي المباشر في الحرب، وغدا صانع القرار الأمريكي أمام أحد احتمالين لا ثالث لهما:
1- الاستمرار في حرب الإبادة الجماعية إلى أبعد مدى وأقصى مستوى ممكن، وتجاهل المواقف العلنية أو الصامتة من بقية دول العالم، على أمل القضاء على المقاومة، لأن تحقيق ذلك كفيل بإعادة إخضاع العالم لإحكام القبضة الأمريكية عليه أكثر مما كان سابقاً.
2- الاستماع إلى صوت الميدان ونتائجه، وإعادة النظر في كفتي ميزان التكلفة والمردودية، واستثمار نتائج التوحش والاستخدام المفرط للقوة الصلبة وما أفرزه استخدام أكبر قدر ممكن من الطاقة التدميرية، ومحاولة صرفه سياسياً، قبل أن تشهد اللوحة الميدانية المتشكلة تبدلات جوهرية تسقط سقف الهيكل على كل من فيه.
القراءة الموضوعية للاحتمالين المذكورين تؤكد ألّا ضمان لإمكانية بلوغ الاحتمال الأول، وارتفاع مؤشرات تبدل اللوحة ميدانياً، فالتوغل البري فشل، وإمكانية الاقتحام وفرض السيطرة على الأرض كما هو حال الأجواء شبه مستحيلة، بل هناك ما يأخذ البوصلة بالاتجاه المعاكس بقرائن دالة متعددة، ومنها:
• استمرار المقاومة في غزة بإطلاق الصواريخ على الداخل الاستيطاني بعد مرور أكثر من عام على بدء ملحمة طوفان الأقصى، واستمرار المقاومين في الاشتباك مع القوات الإسرائيلية في العديد من المواقع، وتكبيدها خسائر بالمعدات والأرواح، وهذا ينفي إمكانية القضاء على حماس.
• الأداء الميداني الاستبسالي لرجال حزب الله في الميدان، وتبدل اللوحة بشكل جذري في غضون ثلاثة أسابيع حيث تضاعفت خسائر جيش الاحتلال بالضباط والجنود والدبابات وبقية صنوف الأسلحة التي انخرطت في القتال، كما ارتفع معدل الصليات الصاروخية والعمليات المنفذة من عدة عمليات إلى عشرات العمليات اليومية، لا بل وصل عدد العمليات إلى أكثر من أربعين عملية في بعض الأيام القتالية، وكذلك الأمر في توسيع عمق الاستهداف ومدى شعاع القوة الصاروخية المستخدمة من المقاومة ونوعية الأسلحة التي تدخل نطاق الخدمة العملياتي بشكل متدرج ومدروس، وتضاعف أعداد الفارين من المستوطنين وامتدادها من الشمال إلى الوسط.
• عندما يصبح استهداف تل أبيب شبه يومي وعملية روتينية تقوم بها المقاومة في حزب الله، وعندما يصل الاستهداف إلى غرفة نوم النتنياهو فليس أمام واشنطن إلا المسارعة لإرسال المبعوثين والمسؤولين لضمان الاستثمار في نتائج التوحش والإجرام قبل أن يتلاشى تأثيرها المباشر الذي أخذ في الاضمحلال والتلاشي.
خلاصة: الحرب اليوم بين المقاومة وبين الولايات المتحدة الأمريكية ومن يلتحف بعباءتها القذرة والنتنة، ورفع سقف الخطاب الأمريكي الذي حمله هوكشتاين كأن المقاومة هزمت وانتهى الأمر لن يغير الواقع الميداني، وتغييره ليس ضمن إمكانية صناع القرار الأمريكي، وبالتالي لا يمكن الركون إليه لأنهم موقنون وأكثر من يعلمون أن هذا الأمر لم يتحقق ولا إمكانية لبلوغه، ومع الأيام والأسابيع القليلة القادمة ستنخفض كثيراً عتبة تحمل الألم لدى الكيان المؤقت بكل مكوناته السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والمجتمعية، وعندها ليس أمام واشنطن إلا المسارعة لتكثيف الزيارات المكوكية التي يقوم بها المسؤولون الأمريكيون أو وكلاؤهم ، وبالتالي لن يتأخر هوكشتاين في العودة، وسيصعب عليه أن تشتاق له المنطقة، لكن سيعود هذه المرة بابتسامات عريضة وخطاب يتدرج بخفض السقوف إلى أن يصل بعتبة متدنية لا تزعج أطراف محور المقاومة، وبيننا وبينهم الأيام والليالي والميادين كما قال سيد شهداء العصر المقدس سماحة السيد حسن نصر الله عليه رضوان الله وسلامه.
حزب اللهالمقاومةعاموس هوكشتاين
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
29/11/2024