آراء وتحليلات
نتائج الانتخابات الأمريكية: نار تحت الرماد
أسدل الستار على الاستحقاق الانتخابي في الولايات المتحدة الأمريكية مع إعلان فوز المرشح الجمهوري والرئيس الأسبق دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة وسيطرة "الجمهوريين" على مجلسي الشيوخ والنواب، ليضاف ذلك إلى سيطرتهم على المحكمة الاتحادية العليا ما يعني إخضاع السلطات التشريعية والتنفيذية والقانونية كافة لحزب واحد، وذلك للمرة الأولى منذ عام 1940، وليس ذلك فحسب بل إن ترامب تمكن من اكتساح الولايات المتأرجحة السبع كاملة وانتزاعها من "الديمقراطيين" إلى جانب فوز حزبه بغالبية حكام الولايات، لتشكل تلك النتائج المجتمعة وغير المتوقعة صدمةً لدى الرأي العام الداخلي والخارجي، ولتجبر غالبية أصحاب القرار والمهتمين بالشأن العام على إعادة حساباتهم وربما ترميم إستراتيجياتهم على صعيد الجبهة الداخلية الأمريكية وجبهات الصراع العالمية.
ولا تتوقف قراءة النتائج على التفكير بسياسات الحرب والسلم بعد فوز ترامب الذي أعلن مراراً أنه سيوقف الحروب، ولا على مستقبل "العولمة" التي أعلن ترامب مراراً وقوفه ضدها لصالح إقامة الدولة الوطنية، بل إن الأمر يقودنا للتفكير بالمآلات الداخلية التي ستصبح عليها الجبهة الداخلية الأمريكية التي تشهد صراعاً متصاعداً وانقساماً عموديًا وأفقياً على الصعيدين السياسي و الاجتماعي منذ سنوات وفي ظل ما شكلته هذه النتائج من ضربة كبيرة تلقاها النهج الليبرالي المتوحش الذي يقوده "الديمقراطيون" أمام اليمين "الجمهوري" بقيادة ترامب وانعكاس ذلك كله داخلياً وخارجياً.
لعلّ من المهم أن نتذكر ما قاله "جورج سنودن" الموظف السابق في جهاز المخابرات الأمريكية واللاجئ إلى روسيا اليوم: "إن الدولة العميقة قي أمريكا ليست فقط وكالة الاستخبارات الأمريكية، بل هي مجموعات من فئات عديدة، لا يتأثرون بتغيير الأحزاب والسياسات، ولا يمكن إقالتهم، هؤلاء هم من يقودون أمريكا، وليس الرؤساء المنتخبون" .. لعله يجعل من بديهيات الوعي السياسي أن يطرح المهتمون والمراقبون السؤال الآتي : أين الدولة العميقة في الولايات المتحدة من الانتخابات ونتائجها؟ وما كان دورها؟ وهل تبّنت وصول ترامب للبيت الأبيض مجدداً؟ أم أن ترامب الذي لطالما جاهر بحربه على الدولة العميقة وهدد بطمسها تمكن من الانتصار عليها؟!.
وقبل مناقشة هذه الاحتمالات لا بد من الإشارة إلى أن مصطلح "الدولة العميقة" يطلق على تحالف عسكري مالي استخباراتي إعلامي يشمل كبرى شركات السلاح والنفط والبرمجيات والمؤسسات الإعلامية ومجمع الاستخبارات وشركات الأدوية والبرمجيات المناخ والبورصات والبنوك وغيرها.
بالعودة إلى الدور المحتمل للدولة العميقة في الانتخابات الأمريكية، فإنه يمكن لنا مناقشة ثلاثة احتمالات :
* الاحتمال الأول: أن تكون الدولة العميقة هي من يقف خلف عودة ترامب للبيت الأبيض، وخلف السيطرة المطلقة لليمين المسيحي ”الجمهوري“ على مفاصل القرار الأمريكي بكل مؤسساته، وهذا الاحتمال تدعمه مؤشرات عدة؛ منها أن الدولة العميقة لم تهاجم ترامب كما فعلت في العام 2016 بعد فوزه مباشرة في الانتخابات، حيث سارعت إلى التحريض عليه واتهامه بالديكتاتور في حينها، كما أن ترامب امتنع عن مهاجمة الدولة العميقة بعد فوزه في الانتخابات، وهذا الاحتمال يعني أن الدولة العميقة قررت تبديل إستراتيجيات الولايات المتحدة في المرحلة القادمة بعد الحروب التي أشعلتها على الصعيد العالمي عبر إدارة بايدن "الديمقراطية" في أوكرانيا و"الشرق الأوسط"، والتي وصلت إلى الحدّ الذي بات يتهدد مكانة الولايات المتحدة على الصعيدين الداخلي والعالمي، في ظل عجز إدارة بايدن عن الانتصار وعجزها عن التسوية، وعلى هذا الأساس من الممكن أن تكون الدولة العميقة قد قررت المجيء بترامب من أجل لملمة شظايا الحروب الأمريكية قبل فوات الأوان، ولإعادة صياغة الإستراتيجيات بما يسمح بإحداث انشقاق بين القوى الصاعدة في العالم الجديد، والتي تحاول جاهدة التمحور أو الانضواء ضمن هياكل اقتصادية أو سياسية أو عسكرية أو "جيوسياسية" منافسة للولايات المتحدة كمنظمة "بريكس+" ومنظمة "شنغهاي" وغيرها.
* الاحتمال الثاني: أن يكون ترامب قد تمكن عبر تحالفه مع "أيلون ماسك" وإمبراطور الإعلام "روبرت مردوخ" من اختراق الدولة العميقة وعقد صفقات مع بعض مكوناتها على الأقل، وهذا يشمل بالضرورة مجمع الصناعات العسكرية على اعتبار أن ترامب مصرّ على دعم شركات النفط الوطنية على حساب شركات النفط العابرة للحدود، ويدعم صناعة النفط الصخري المحلي، وبالتالي فإن الصفقة المحتملة بينه وبين مجمع الصناعات العسكرية والتي ستشمل بطبيعة الحال مجمع الاستخبارات من المفترض أنها ستلزمه بإشعال حروب جديدة لصالح شركات السلاح، وهذا يستوجب خلق صراعات جديدة سواء تدخلت فيها واشنطن بشكل مباشر أو غير مباشر، وفي هذا الإطار يمكن لنا أن نتوقع أن تشتعل جبهة الصين-تايوان، أو الحرب على إيران، أو جبهات أخرى غير متوقعة من خارج الحسابات.
* الاحتمال الثالث: أن تكون الدولة العميقة، وفي ظل الاندفاع الجامح لترامب ومؤيديه على الصعيد الشعبي قد اضطرت للصمت وامتنعت عن اللعب بنتائج الانتخابات كما جرى في العام 2020 بدافع الخشية من حدوث اضطرابات داخلية قد تقود إلى حرب أهلية خاصة أن ترامب هدد مراراً بتصعيد داخلي في حال تزوير الانتخابات أو خسارته لها، خاصة أن الدولة العميقة قد فشلت في كل المكائد التي استخدمتها لمنع ترامب من الترشح للانتخابات الرئاسية عبر محاكمته بقضايا عديدة وصل بعضها إلى حد اتهامه بالخيانة، ومخالفة القانون وتسريب وثائق سرية وفضائح وتهرب ضريبي، إلى جانب نجاته من محاولتي اغتيال خلال الحملة الانتخابية.
لا شك أن هذا الاحتمال وارد وبقوة، وقد يكون الاحتمال الأكثر ترجيحاً، لكنه ينمّ عن مخاطر كبيرة قادمة على الداخل الأمريكي على اعتبار أن الدولة العميقة لن تقف مكتوفة الأيدي، وبلا شك فإنها وإن مررت الانتخابات تجنباً لحرب أهلية، فإنها لن تسمح لإدارة ترامب القادمة بتحطيم وطمس الدولة العميقة ودورها ونفوذها، وبالتالي فإن الصدام قادم لا محالة بين الطرفين خاصة أن ما جرى يمكن توصيفه بأنه يشكل انقلاباً وطنياً من قبل ترامب بما يمثله على الدولة العميقة وأدواتها، ومن المتوقع أن يشهد هذا الانقلاب المزمع تسارعاً خلال العامين الأولين من رئاسة ترامب قبيل الانتخابات النصفية لـ"الكونغرس"، لكن هذا التسارع قد يتسبب بردات فعل للطرف المقابل من خارج (صندوق السياسة المباحة)، ولا نبالغ في القول، إن خصوم ترامب لن يستسلموا بهذه السهولة، ولأنهم مكبلون سياسياً، فإن خيار اللجوء لما هو من خارج السياسة بات واردًا بقوة لديهم، سواء على الصعيد الشعبي أو على صعيد التورط بما هو غير قانوني، وخاصة أنهم متغلغلون في المجمع الاستخباراتي بشكل عميق للغاية، وليس من المستبعد أن تكون فكرة التخلص من ترامب على رأس أولوياتهم سواء عبر تغييبه بالاغتيال، أو إسقاطه شعبياً عبر النزول للشارع مهما كلف الأمر ..
الولايات المتحدة الأميركيةدونالد ترامبالانتخابات