الخليج والعالم
أمريكا بعد غارة "مار إيه لاغو": هيّا الى الحرب والسلاح
د. علي دربج باحث ومحاضر جامعي
يبدو أن التاريخ يكرر نفسه في الولايات المتحدة. فبعد أقل من عامين على اقتحام مبنى الكونغرس في 6 كانون الثاني/ يناير 2020، ها هي أجواء الشحن والتحريض والفوضى والحرب، والتهديد بالانتقام من الادارة والحكومة الحالية ووكالاتها الامنية، تظلل المشهد السياسي الامريكي بعد قيام جهاز "FBI" بتفتيش مقر اقامة الرئيس السابق دونالد ترامب في "مار إيه لاغو" ليلة الإثنين الماضي، الى حد ان الامور باتت مفتوحة على كافة الاحتمالات في هذا البلد، بما فيها التمرد المسلح. كما ان هذه الاحداث تظهر صورة أمريكا الحقيقية كدولة لا يقل سياسيوها ومشرعوها غوغائية وتوحشا، ورفضا للقوانين والانظمة، عن بقية نظرائهم الاستبداديين في الكثير من الدول.
ما هي اسباب هذا التأزم في الداخل الامريكي؟
من المعروف ان التهديد بالعنف السياسي والمسلح يتزايد من قبل المتطرفين اليمينيين منذ سنوات. لكن وتيرته تصاعدت بشكل غير مسبوق، بعد ساعات قليلة على سريان الأنباء عن مداهمة مكتب التحقيقات الفيدرالي لمنزل ترامب، حيث بدأت جوقة من المشرعين الجمهوريين ومقدمي البرامج الحوارية المحافظين والمحرضين المناهضين للحكومة ومنظري المؤامرة المؤيدين لترامب، في إصدار دعوات صريحة أو مبطنة للعنف.
اكثر من ذلك، وصلت الدعوات لحمل السلاح إلى ذروتها، مع ترويح اليمينيين المتطرفين من الحزب الجمهوري، لفكرة ان العنف بات ضروريا بل واجبا وطنيا، وان اللحظة باتت قريبة لانقاذ أميركا.
ومع انه لم تنجل بعد، حقيقة ما عثرت عليه FBI في منزل الرئيس السابق المهزوم، لكن ما يثير الريبة هي موجة الهيستيريا التي ضربت المسؤولين الجمهوريون المنتخبين، وفي مقدمتهم زعيم "الحزب الجمهوري" في مجلس النواب كيفين مكارثي الذي اتهم وزارة العدل بـ "حالة لا تطاق من التسييس المسلح". وخاطب في بيان النائب العام ميريك غارلاند، قائلا "احتفظ بمستنداتك وامسح تقييمك."
وبالمثل ادعى حاكم فلوريدا رون ديسانتيس، ان "الوكالات الفيدرالية، تقوم بالتسلح لمواجهة المعارضين السياسيين للنظام". فيما أشار آخرون إلى ان "الديكتاتوريات الماركسية في العالم الثالث، والحزب الديمقراطي يسيئون استخدام السلطة دون رادع، بمشاركة مكتب التحقيقات الفيدرالي الذي يحاول القضاء على الأعداء السياسيين للحكومة.
إضافة الى ذلك، دخلت محطة " فوكس نيوز" ــ المؤيدة لترامب وحزبه ــ وغيرها من وسائل الإعلام المحافظة على الخط الهجوم على الحكومة والـFBI، واطلقوا العنان لتحريضهم. وفي هذا السياق قال الإعلامي دان بونجينو من المحطة: "أنت لم تعد تعيش في جمهورية دستورية". وبينما وصف المسؤول السابق في إدارة ترامب مايكل كابوتو "مكتب التحقيقات الفيدرالي بـ"KGB، بعد الغارة على الطراز العسكري"، طالب مدير ميزانية ترامب السابق روس فوت بـ"تفكيك مكتب التحقيقات الفيدرالي". بدورها هددت المذيعة لورا إنغراهام بأنه "عندما نستعيد السلطة، فقد حان الوقت لمحاسبة الجميع".
وعلى خط مواز، لم تكن لهجة أنصار ترامب، أقل عداء، فقد جمعت الباحثة في مجال التطرف كارولين أور بوينو، مجموعة من عشرات التغريدات لمؤيدي الرئيس السابق التي تدعو إلى العنف ردًا على "المداهمة".
أحدهم تفاخر قائلا: "لقد اشتريت ذخيرتي بالفعل انها حرب اهلية! احملوا السلاح أيها الناس". فيما غرد آخر سائلا "متى يبدأ إطلاق النار ؟ غدا هو الحرب.. التقطوا السلاح أيها الناس".
أما الامر الاكثر اهمية، هو إن غارة مكتب التحقيقات الفيدرالي في "مار إيه لاغو" للبحث عن وثائق سرية، يتم تقديمها الآن من قبل الجمهوريين كنقطة تحول، وتهديد وجودي للولايات المتحدة يجب على الوطنيين الحقيقيين إحباطه.
إضافة الى ذلك، طالت الحملة الجمهورية، القضاء، حيث انشغلت الحكومة الامريكية بسلامة القاضي الفيدرالي في فلوريدا ميريك غارلاند الذي وافق على أمر التفتيش. بمجرد أن شق اسمه طريقه إلى المنتديات اليمينية، سرعان ما تبعت التهديدات ونظريات المؤامرة.
علاوة على ذلك نشرت المجموعات المؤيدة لترامب على الإنترنت معلومات الاتصال الخاصة به ، واعتبارًا من بعد ظهر الثلاثاء الماضي ، لم تعد الصفحة الرسمية للقاضي متاحة على موقع المحكمة على الإنترنت.
وماذا تعني هذه التهديدات للامريكيين؟
في الحقيقة، تشعر غالبية الشعب الامريكي بالخوف والقلق من تفاقم الاوضاع، والوصول الى مرحلة الصدام المسلح، نظرا للصورة السلبية السيئة التي تحتفظ بها الجماعات اليمينية المتطرفة، عن مكتب التحقيقات الفيدرالي (التي تنظر اليه كعدو) الذي كان دخل في مواجهة معها، وعمد الى قمعها في مراحل زمنية مختلفة اليكم تفاصيلها.
خلال إدارة كلينتون في تسعينيات القرن الماضي، خاضت مجموعات الميليشيات اليمينية المتطرفة مواجهات دموية مع جهاز "FBI"، في "مجمع طائفة برانش ديفيديان" في واكو، وفي مواجهة سابقة في "روبي ريدج ، أيداهو".
للعلم تدور واقعة "روبي ريدج" بولاية "إيداهو" حول "راندي ويفر" (1992) الذي كان وزوجته من المتشددين من أتباع جماعة "الأمة الآرية" المسيحية المؤمنة بالنقاء العرقي، وبأن نهاية العالم قد اقتربت، وقد استطاع شراء وتهريب الكثير من الأسلحة لصالح هذه الجماعة. صدر أمر للمباحث الفيدرالية بالقبض عليه لكنه رفض وتحصن مع شقيقه وأحد أتباعه وزوجته وأبنائه داخل منزله، وبعد 11 يوما من الحصار نشبت اشتباكات بين الطرفين، قتلت خلالها زوجته وإحدى بناته ثم استسلم للشرطة.
أما قضية مجمع طائفة "برانش ديفيديان"، فتتمحور حول جماعة يمينية مسيحية متطرفة، تحلقت حول شاب يدعى ديفيد كوريش، داخل مجمع معزول من المباني، وتسلحت وقاومت القبض على أفرادها، فحوصرت من قبل المباحث الفيدرالية لأكثر من خمسين يوما، جرت خلالها محاولة اقتحام فشلت في المرة الاولى، وخلّفت خمسة قتلى من بين رجال الشرطة. وبالرغم من المحاولة الثانية والأخيرة لكن لم يستسلم "الديفيديون" وكان عددهم يربو على الثمانين شخصا مع زعيم الطائفة ديفيد كوريش، فأشعلوا النار وفجروا المبنى وماتوا جميعا مع زعيمهم.
ما يثير الصدمة، انه في نيسان/ أبريل 1995 ، في الذكرى الثانية لهذه الواقعة "مجمع طائفة برانش ديفيديان"، فجّر قومي أبيض شاحنة مفخخة خارج المبنى الفيدرالي في أوكلاهوما سيتي ، مما أسفر عن مقتل 168 ، العديد منهم من الأطفال.
وفي عام 2010، وفي عهد أوباما، كانت الجماعات اليمينية المتطرفة المناهضة للحكومة تتمدد مرة أخرى، حيث روج الجمهوريون البارزون للبنادق لمحاربة "حكومة استبدادية" وطلبوا من النشطاء أن يكونوا "مسلحين وعلى اتمّ الجهوزية".
كما حذروا من أن البلاد تتعرض لـ "هجوم" من "حكومة عصابات". تلا ذلك موجة من التهديدات والعنف الفعلي قام به المتظاهرون المسحلون الذين ساروا عبر العاصمة وحطموا نوافد المباني، وقد نجم عن ذلك مقتل ستة أشخاص وإصابة النائب غابي جيفوردز (ديمقراطية أريز) بجروح خطيرة.
غير ان ما يزيد من سوء الأوضاع داخل امريكا، هو إثارة معلقون محافظون و مشرعون جمهوريون الغضب بين انصارهم، وحضهم "للوطنيين" (اي المؤيدين للجمهوريين والجماعات اليمينية) على مقاومة اي محاولة مفترضة من جانب الحكومة لمصادرة الأسلحة وفرض حكومة عالمية، وتحذيرهم ومن هجوم "لطائرات الهليكوبتر السوداء" الحكومية او "شنّ عملية شبه عسكرية ضد الأمريكيين". كما دعوا الناس إلى الانتفاضة ضد "إساءة استخدام السلطة".
كيف ينظر الامريكيون الى المستقبل في ظل التهديدات الجمهورية؟
حاليا، يرى خبراء وساسة ونخب امريكية اعلامية واكاديمية، انه ومع اقتراب الانتخابات النصفية للولاية الأولى لرئيس ديمقراطي حالي، وفي ظل السقف العالي لخطاب الجماعات اليمينية المناهضة للحكومة، أصبح من السهل على اية مجموعة، أو حتى شخص واحد غير مستقر عقليًا، إطلاق العنان لمذابح جماعية.
فما يخشونه هؤلاء الخبراء والنخب، ويقضّ مضاجع الامركيين، هو الخوف من قيام المتطرفين بتنفيذ تهديداتهم عبر استعمال المتفجرات الاخف وزنا، او استخدام الطابعات ثلاثية الأبعاد، وتحويل مسدسات Glock العادية إلى أسلحة أوتوماتيكية بالكامل قادرة على إطلاق أكثر من 15 طلقة في الثانية. كما ان الإنترنت والاتصالات المشفرة التي تسهل التطرف والتنسيق على نطاق واسع، تصيبهم بالذعر والهلع، وترفع من توقعاتهم بوقوع جرائم جماعية.
في المحصلة، بالنسبة للكثير من الأمريكيين المعارضين لترامب، لم تنجم هجمات الجمهوريين على غارة "مار إيه لاغو" عن شكوك معقولة في تطبيق القانون ، بل هي بنظرهم نتيجة لشيء أكثر قتامة: اعتقاد اليمين بأن وظائف الحكومة يجب أن تكون بالضرورة حزبية، إما لمنفعة الجمهوريين أو ضدهم، تماما كما تتصرف الديكاتوريات. هذه حقيقة امريكا.
إقرأ المزيد في: الخليج والعالم
25/11/2024