آراء وتحليلات
المشترك القومي والإسلامي: رفض الانكسار وليس ادعاء الانتصار!!
د.أياد حرفوش(*)
تحتفل فرنسا في الثامن من أيار/ مايو كل عام بعيد النصر في الحرب العالمية الثانية! فهو اليوم الذي أعلن فيه شارل ديغول الانتصار في 1945م، ودقت أجراس الكنائس احتفالا!
فرنسا التي خسرت الحرب، وسلم رئيسها "بيتان" العاصمة باريس لقوات النازي، وانسحب لمدينة جنوبية صغيرة فيما عرف بحكومة فيشي، وقبلت حكومة فيشي أن تدفع مصروفات إعاشة جيش الاحتلال على أراضيها. مع ذلك تحتفل فرنسا بنصر حررتها فيه القوات الأمريكية بعد إنزال نورماندي!! لماذا؟؟ لأن أحد جنرالات فرنسا (ديغول) أعلن من بريطانيا عبر المذياع رفضه لاستسلام "بيتان"، وأسس حركة "فرنسا الحرة"، وتواصل مع قادة القوات الفرنسية في شمال أفريقيا ليعينوا قوات الحلفاء!
نشر أحد الليبراليين المصريين مقالاً كان دفعه الأساسي فيه أن التيار القومي العروبي اخترع تحويل الهزائم إلى انتصارات، واستلهم الإسلاميون منه هذا النهج! وجاء حديثه حافلاً بالتخليط، فوضع الزعيم الراحل "جمال عبد الناصر" مع الرئيس العراقي الراحل "صدام حسين"، رغم البون الشاسع بين القومية الناصرية والبعثية، ورغم ضلوع الثاني في شبابه في محاولة فاشلة لاغتيال الأول! ووضع الشيخ "أحمد ياسين" والسيد "حسن نصر الله" في سلة واحدة مع بن لادن والظواهري! فجعل من قاتل عدونا كمن قتلنا ولم يخدش لعدونا جلداً (عدونا نحن، فهو وفصيله لا يرون في الكيان الصهيوني عدواً). وقد اخترت ألا أوجه ردي، كقومي عروبي، لشخصه. أولاً، لأن حديثه جاء معبراً عن حديث الليبراليين العرب بصورة عامة! وثانياً لأنه كذلك لم يكن مشخصناً. ولأننا أهل الدليل، وحيثما مال الدليل نميل، فسنقطع الجدل في كل دفع من دفوعه بالدليل!
كان أول الخلط عندما زعم أن مصر هزمت في العدوان الثلاثي عام 1956م! وهو زعم سمعتموه من فصيله مرارا وتكرارا. لم يزعم أحد لا وقتها ولا اليوم أننا سحقنا جيوش ثلاث دول، لكن صمود أهل بورسعيد البطولي، وقدرة القيادة السياسية على حشد التأييد الدولي صنعت لنا الانتصار السياسي. ولقطع الجدل، أحيله لكتاب "نهاية درس" لوزير الدولة للشؤون الخارجية البريطاني "هارولد أنتوني نتنج"، ليقرأ ما يعتقده البريطاني نفسه حول نتائج الحرب. كما أهديه الصورة التالية من موقع (History.com)، والمقال الذي كتبه محررو الموقع يقول نصا "في النهاية خرجت مصر منتصرة، وانسحبت جيوش بريطانيا وفرنسا وإسرائيل".
ومثل زعمه في حرب 1956، زعم كذلك أن لبنان خرج من حرب تموز 2006 مهزوما، تأسيسا على حجم الخراب الذي خلفته المعارك. ولقطع الجدل كذلك، أحيله لمقال جيرمي شارون في صحيفة "الغارديان"، عدد 12 تموز/ يوليو 2010م، بعنوان "دروس حرب لبنان 2006". تناول المقال فشل "إسرائيل" في تحقيق أهداف الحرب، وانخفاض احتمالات شن حرب جديدة بسبب هذا الفشل، وتحدث عن تنامي قدرات حزب الله القتالية بعدها.
نتائج الحروب يا سيدي لا تقاس بعيون مقاولي الهدم! لا تقاس بحجم الركام الذي نتج عنها!! وما قيل في حرب 1956 وحرب لبنان 2006 يقال في حروب غزة في 2009، 2012، 2014م. نعم، كانت خسائرنا أكبر من خسائر العدو، لكن العدو نفسه لم يدع أنه حقق نصرا حاسماً! وفي هذا أحيله إلى تحليل المحلل العسكري الإسرائيلي رالف كوهين في 3 آب/ أغسطس 2017م، حول الدروس الخمسة المستفادة من حروب إسرائيل على غزة! العدو نفسه لم يدع نصرا حاسما أيها المهزومون بالقلب!! بمعيار خسائر البنية التحتية والضحايا سيكون علينا ألا نعتبر بريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفيتي منتصرين في الحرب العالمية الثانية، وسيتعين علينا أن نكتب تاريخ العالم من جديد لنرضي انهزاميتكم!!
كذلك زعم كاتب المقال أننا (القوميون العرب) ندعي انتصارا في حرب 1967م!! ولا أعرف كيف خرج بهذا الزعم! فقد هزمنا هزيمة مريرة في 1967م، أما تسمية النكسة فكانت لهجة تخفيف قصدت بالأساس الحفاظ على معنويات الجيش المقاتل! ولو كان كاتب المقال يعتقد بأن هذا أمر فريد في تاريخ الحروب، فأنا أحيله إلى خطاب "ونستون تشرشل" في مجلس العموم البريطاني لشرح الانسحاب الدامي في "دنكرك" في 1940م، وكيف وصفه بمعجزة الخلاص، وأحيله إلى تغطية الصحف البريطانية للحدث. الحفاظ على معنويات الجيش بتخفيف لفظ الهزيمة لم يكن إنكارا لها، لكنه كان نظرةً نحو اليوم التالي: نحو حرب الاستنزاف! تلك الحرب التي لم يورد لها كاتب المقال ذكرا وكأنها لم تحدث!! تماما كما قفز على تحرير جنوب لبنان في أيار/ مايو 2000م كأنه لم يحدث! فتلك صفحات جلية يصعب على إفكه أن ينال منها! أما أسخف مزاعمه على الإطلاق فكانت زعمه بأننا نرى في حرب أكتوبر المجيدة هزيمة! ولا أعرف من جديد عن أي قوميين يتحدث؟! كانت حرب أكتوبر نصرا عسكريا نعتز به، لكن مشكلتنا، وخلافنا مع الرئيس الراحل أنور السادات، كانت في الاستثمار السياسي لنتائج هذا النصر!
يصف كاتب المقال حزب الله اللبناني وحركة حماس بالحركات الإرهابية! وهو بهذا يسيئ إلى الدولة المصرية من حيث يظن أنه يحسن! وهي إساءة لا نقبلها. زارت وفود من حماس القاهرة في 2017م، 2019م، و2020م، في زيارات رسمية. فهل تستقبل مصر وفودا من جماعات إرهابية في زيارات رسمية؟ ومصر تقوم بدور الوساطة بين دولة الاحتلال وبين الفصائل الفلسطينية في الحرب الراهنة، ولا أعرف أن مصر كان لها دور وساطة مع القاعدة وطالبان! أما حزب الله اللبناني فهو مكون رئيس في الدولة اللبنانية التي تربط مصر بها علاقات وثيقة، وقد زار القاهرة وفد رسمي من حزب الله في 2016م للتعزية في أستاذنا الراحل "محمد حسنين هيكل"! (أضف هذا في المرة القادمة لربطك بين القوميين والإسلاميين). نعم، أنا كقومي لا أتماهى مع الإسلاميين، فبيني وبينهم خلاف أيديولوجي عميق فيما يخص علاقة الدولة والدين. وأنا كذلك ضد حماس لو حاولت أن يكون لها تأثير داخل مصر أو على مصر، لكنني معها عندما تطلق صاروخا على "إسرائيل"!
وختاماً، يرفع صاحب المقال شعار "مصر أولاً"، ونحن نرفعه مثله وقبله!! لكن أولوية مصر عندنا لا تعني انسحابها من إقليمها وانكفاءها داخل حدودها! فما مأساة سد النهضة التي نواجهها اليوم إلا مغبة رفع هذا الشعار في السبعينيات وانسحاب مصر من الحضور السياسي في عمقها الإفريقي! أولوية مصر عندنا تعني أن نحفظ لمصر حجمها وثقلها التاريخي في دوائرها الثلاث: العربية والإفريقية والإسلامية! أولوية مصر تفرض علينا أن ندرك أن "إسرائيل" كانت وستبقى عدواً، وما دورها في إثيوبيا وتوغلها في شرق إفريقيا بخفي لو كنتم تدركون!!
(*) كاتب مصري
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024