آراء وتحليلات
قمم الخيبات العربية
أحمد فؤاد
"قمم قمم
معزى على غنم.."
مظفر النواب
درجت العادة على أن تحمل الأحداث المفصلية والكبرى فرصًا براقة في طياتها، مع كل ما تجلبه من أزمات وتداعيات تضرب بعنف وتحرق في سرعة الكثير من محاولات الصمود أمام وضع اقتصادي عالمي صار مأزومًا بشدة وعند أساسه، الفرص ليست مجانية بالطبع ولا هي "هدايا العيد"، بل هي أقرب لآمال تلمع أمام العيون المستعدة للرؤية والتغيير، والمؤمنة بوجوب الحركة والفعل والاستجابة.
لكن في الظرف العربي الحالي، والذي ستستفيد بعض دوله المنتجة للنفط بكل تأكيد من الأزمة بشكل مذهل، فإن دولًا أكثر تقف في المكان الخاطئ وتدمن التوقيت الخاطئ وتنحاز حين يرغمها الظرف على الاختيار إلى الجانب الخاطئ، في علاقاتها الدولية، والمستمرة بالرهان على التفوق الأميركي، وفي إدارتها لشعوبها، بممالأة طبقة الأغنياء الجدد والعمل لصالحهم طول الوقت.
كانت الدول العربية مدعوة إلى نظرة فاحصة على القمة الدولية، في ظل صراع ساخن جدًا، الولايات المتحدة وأوروبا الغربية ضد روسيا، ثم الولايات المتحدة في سباق آخر مكتوم مع دول أوروبا الخاسرة بفعل العقوبات على قطاع الطاقة الروسي، وفي جانب آخر من المسرح العالمي هناك الصين المتحفزة، والتي تدرك جيدًا أنها ستؤكل لو أكل الثور الأبيض، فهدف كل تحرك أميركي هو الإخلاء والترتيب لمرحلة جديدة تجند فيها كل ما تستطيع لمحاولة وقف صعود التنين الأصفر الرهيب، سواء كان الانسحاب من أفغانستان والشرق الأوسط أو تحجيم القوة الروسية في أوروبا.
لم تنجح أية دولة عربية في اللعب على كل هذا الاختلاف والمواقف المتباينة للدول الكبرى، وبالتأكيد فإن التناقضات بينها كانت تحمل الكثير من فرص تعديل الموازين المختلة بيننا وبين واشنطن خصوصًا، حتى وصلنا إلى السقطة الكبرى بعقد ما أسماه الإعلام الصهيوني بـ "قمة ثلاثية" في شرم الشيخ بين رئيس وزراء الكيان وولي عهد أبو ظبي والرئيس المصري، والاجتماع بحد ذاته لا يمثل جديدًا ولن يصنع واقعًا أو حقيقة، غير أنه يبقى شاهدًا على العجز والفشل حين يتحكم في الشعوب ويذل رقاب البلاد والعباد، لتعويض نقصه مع أسياده.
لا يقول الاجتماع التافه، بقدر تفاهة حضوره وعدم امتلاكهم أدوات تغيير ما يجري في المنطقة فضلًا عن العالم، سوى أن الكيان قرر أن يقود الأنظمة التابعة في العلن، عوضًا عن لقاءات الغرف السرية، والأنظمة العربية "المعتدلة"، وفقًا للتعبير الأميركي الشهير، لا ترى خطرًا سوى على العروش والشرعية المعمدة بأخضر الدولار.
في الأزمة الروسية الأوكرانية، بدت الدول العربية ـ كلها ـ كأكياس الملاكمة، مستسلمة أمام كل من يحب الركل، حتى وإن لم يكن يجيده، من مواقف مخزية ثم تقديم فروض الطاعة الكاملة والمجانية للموقف الأميركي، إلى شلل كامل أمام تداعيات اقتصادية عنيفة، كان الجميع يراها واقعًا ويعلم بقدومها حتمًا، إلا حكوماتنا التي صُدمت مع أول الاهتزازات، واستسلمت في وجه بشائر الخراب القادم.
وقبل أي حديث عما ينتظر الدول العربية، خاصة التي تقع في المنطقة الحمراء للقروض الخارجية، وبالتالي هي أكثر عرضة من غيرها للوقوع تحت طائلة شروط القروض الأجنبية، ووصفات صندوق النقد الدولي، فإنه من المفيد أولًا وضع عدد من الخطوط الفاصلة، بين ما كان فعلًا وبين ما قد يكون قادمًا مع الأيام القليلة المقبلة.
الخط الأول في أي حديث عن أي نظام حكم لأي دولة أو حتى جماعة بشرية، هو أن كفاءة الحكم تتحدد بمدى قدرته على بناء وتعزيز مرونة المجتمع في مواجهة الأزمات، ودرجة صلابته في مواجهة الحوادث المفاجئة على الطريق، وصناعة ودعم كل ما يزيد الترابط بين أفراد هذا المجتمع ومؤسسات الدولة الخدمية، لزيادة الثقة وتقليل استنزاف الموارد والإمكانيات في مواجهات طويلة وعنيفة، كالتي يمر بها العالم اليوم، وتجعل من المخاطرة وعدم اليقين العنوانين الأبرز للتوقعات.
والخط الثاني، هو أن السير على شروط ووصية صندوق النقد والبنك الدوليين لم يثبت نجاحًا في حالة أية دولة قد لجأت إليه، والشواهد أكثر من أن تحصى والنتائج على الشعوب أسوأ من أن تروى، ويكفي مثلًا أن مصر ـ بعد كل ما جرى ـ وفي خضم معدلات تضخم منفلتة، لم تجد سوى الاستجابة لـ "نصيحة" صندوق النقد الدولي بضرورة خفض قيمة العملة المحلية الجنيه مقابل الدولار، خطوة سترفع معدلات التضخم إلى رقمين وفقًا لمحللين وتجارب سابقة مريرة.
ما أجبر الحكومة المصرية على القرار المفجع هو موافقة صندوق النقد الدولي على الدخول في مفاوضات لأجل قرض جديد، سيتلاشى مثلما تبخرت كل القروض، طالما ظل الاقتصاد يدار لمصلحة الخارج ووفق شروطه، وطالما بقيت الحالة الإقطاعية تتحكم في الموارد والسلع وتخنق الناس لمصلحة قلة صغيرة العدد فائقة النفوذ.
وبعد هذا، فإن ما تنتظره كل دولة عربية تقف على هذا الجانب من الصراع العالمي المحموم، وفي ظل التهديدات لحركة التجارة العالمية والمخاوف المتعلقة بسلاسل التوريد، بفعل العقوبات الغربية الجنونية على روسيا، هي أربع نتائج لا خامس لها، معدلات تضخم منفلتة وما تعنيه من المزيد من الإفقار والعجز والمتاعب للطبقات الأقل قدرة على المقاومة، وتوقف تدفق القروض الأجنبية بالوتيرة العالية التي كانت متاحة في ظل تفشي جائحة كورونا من مؤسسات التمويل الدولية، والقبول الإجباري بإجراء خفض معتبر وكبير في العملات المحلية وهو ما سينعكس على القدرة الشرائية لعموم الناس، وأخيرًا استمرار الدائرة الجهنمية لعجز الموازنات وما تستتبعه من فرض ضرائب ضخمة لتمويلها، وهي الأخرى مقطوعة من جيوب من تستطيع الحكومات الاستقواء عليهم.
بشروط صندوق النقد الدولي المعروضة حاليًا على أية دولة عربية، فإنه لن يبقى لنا ـ الشعوب ـ سوى الخراب.
صندوق النقد الدوليالبنك الدولي
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024