آراء وتحليلات
ملاحقة المضاربين.. "دعسة" ناقصة من دون كبيرهم
علي رسلان*
نهاية الشهر الفائت عُقد اجتماع ضمّ رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ووزير المال يوسف خليل وحاكم المصرف المركزي رياض سلامة. الحديث كان عن سبل وآليات ضبط التدهور الحاصل بسعر صرف الليرة اللبنانية. وعليه، طلب رئيس الحكومة من حاكم مصرف لبنان اتخاذ الإجراءات الضرورية بما يمليه قانون "النقد والتسليف" لوضع حد لانهيار العملة الوطنية، فما كان من الحاكم إلا أن اشترط توقيف من سمّاهم بكبار المضاربين كي يتسنى لإجراءاته أن تؤتي المرجو منها.
وبالفعل، سطّر المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات استنابة قضائية إلى النائب العام المالي القاضي علي ابراهيم، طلب فيها من القوى والأجهزة الأمنية العمل على توقيف المضاربين المعروفين بالأسماء والعناوين. تلك الأسماء كافة كانت تعمل لصالح حاكم المصرف المركزي، ومنذ أن بدأت حملة ملاحقة المضاربين وزجهم في السجون، عاود سعر صرف الدولار ارتفاعه الكارثي، مستفيداً من بدء العمل بقرار رفع سعر صرف الدولار الرسمي إلى 15000 ليرة بداية شهر شباط، ما يعني ارتفاعه أكثر من عشرة آلاف ليرة بأقل من أسبوعين، كل هذا حصل، والمضاربون قيد التوقيف، كيف ذلك؟
الجواب عن هذا السؤال ليس صعباً. هناك من استمر بسحب الدولارات من السوق بشكل هائل، وهو نفسه الذي كان يستعين بالمضاربين الكبار لشراء الدولار. كما أنه نفسه من كان يزودهم بالعملة اللبنانية عبر صناديق "مختومة"، لكنه وفي المرحلة الأخيرة شعر أن هؤلاء المضاربين باتوا لاعبين فعليين في السوق، ليسوا بقوته بل باتوا يستطيعون التمرد عليه، من خلال توقفهم عن جمع الدولارات حيناً، والتأثير على فعالية قرارات ضخ الدولار عبر منصة "صيرفة" أحياناً، وآخر هذا التأثير كان نهاية شهر كانون الثاني.
حاكم المصرف المركزي كما هو معلوم يُعد الشاري الأول للدولار من السوق وبأسعار السوق السوداء مهما علت، وقد بات معلوماً أنه كلما توقف الحاكم عن شراء الدولار أو قلّل منه، يتحسّن سعر صرف الليرة، ومتى دخل السوق انهار سعر العملة الوطنية. وقد عمد سلامة بعد توقيف كبار المضاربين إلى "التربيط" مع صرافين شرعيين لشراء الدولار لصالحه حسب السوق السوداء، وبذلك يستطيع إبقاءهم تحت سيطرته من خلال سياسة "العصا والجزرة".
الجزرة تكون بجعل هؤلاء المحظيين من المقربين المنتفعين من فروقات سعر الصرف، وتحقيق أرباح كان يعمل لأجلها المضاربون في السوق السوداء. وبهذه الحالة يمارس الصراف الشرعي عمل المضاربين بغطاء من حاكم مصرف لبنان شخصياً. أما العصا فهي لمن يحاول منهم الارتفاع أعلى من الحاكم الذي بيده وقف الرخصة، وإن لم يكن كذلك فبإمكانه "الوشاية" عن هذه الشركات لدى الخزانة الأميركية، فيُسلَّط عليها سيف العقوبات، وينفذ الحاكم إملاءات الخزانة الأميركية سريعاً، كما حصل سابقاً مع مصارف وشركات صيرفة وآخرها شركة "CTEX".
وإلى جانب الصرافين الشرعيين ما زال سلامة يسحب الدولار من خلال بعض شركات تحويل الأموال المنتشرة في كل لبنان، وبسعرٍ يحدده المصرف المركزي لكل منها، وذلك حسب انتشارها الجغرافي، وحجم المبالغ القادرة على شرائها لصالح المركزي. تلك الشركات لا تستطيع القفز فوق الحاكم، تماماً كالصرافين الشرعيين، لأنها معرّضة لوقف عملها في أي لحظة يريد رياض سلامة ذلك. هو الحاكم بأمره، لا يريد شريكاً أو مؤثراً غيره في السوق، ليُبقي قواعد اللعبة حسبما يرتأيها، وحسبما يُملى عليه داخلياً وخارجياً، خدمة لأجندات سياسية، تهدف لتعميق الانهيار أكثر وأكثر.
وفوق كل ذلك، يتحكّم سلامة بسعر منصة "صيرفة"، التي بدلاً من أن تكون محطة لجذب السوق السوداء نحوها، فإنها تلحق بسعر الصرف في هذه السوق. المنصة التي تُعد حالة استثنائية لا شرعية قانونية لها، لم تفلح في تحقيق الهدف منها بضبط سعر الصرف، واجتثاث جذور السوق السوداء التي كانت طرية يوم إطلاقها في شهر أيار 2021. ومنذ ذلك الحين وهي تتجه صعوداً، حيث بدأت بسعر صرف الدولار مقابل 12 ألف ليرة، لتتخطى اليوم الـ43500 ليرة للدولار الواحد. وفي الوقت الذي استُخدمت فيه لضبط السوق السوداء، كان الحاكم يرفعها إلى مستوى قريب من سعر السوق ولم يفعل العكس. حالات ضخ الدولارات كانت تذهب للمضاربات، فتأتي النتائج عكسية، ويبدأ الدولار مجدداً ارتفاعه الجنوني بعد محطة استقرار آنية فرضها ضخ مصرف لبنان للدولار.
توقيف المضاربين من دون المضارب الأكبر في السوق، لم يؤتِ أُكله أبداً، بل زاد من جنون انهيار الليرة اللبنانية. اللعبة ذاتها لم تتغير لدى حاكم مصرف لبنان. فقط بدّل "عدّة الشغل" لديه واستمر بالنهج الذي بدأه منذ نهاية العام 2019. وقبله كانت "عدّة الشغل" هي المصارف عبر هندسات مالية يقال إنها أجّلت الأزمة من العام 2011 إلى 2019، إلا أنها في الواقع أهدرت أكثر من 5 مليارات دولار من خزينة الدولة من أجل خلق استقرار وهمي لليرة، استقرارٌ كان حينها مقدّمة الانهيار الكبير الذي نشهده حالياً.
*صحافي اقتصادي
الدولارالمصرف المركزيرياض سلامةالليرة اللبنانيةالمصارف
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024