آراء وتحليلات
آخر ضحايا "دولة الجيش الباكستاني".. عمران خان المتمرد على أمريكا
د. علي دربج - باحث وأستاذ جامعي
هناك حقيقة بديهية قديمة عن باكستان، وهي تنبع في الواقع من بروسيا في القرن الثامن عشر، حين وصفت إحدى الشخصيات الفرنسية الكبيرة الدولة الألمانية بأنها ليس بلدًا به جيش بل جيش له دولة، وهذا إن دل على شيء إنما على مركزية العسكر في الحياة البروسية آنذاك، وحجم الإنفاق العام على القوات.
اللافت أنه بعد قرون على هذه المقولة، نجد أن هناك خطًا مماثلًا للدولة الواقعة في جنوب آسيا أي باكستان. فمعظم الدول لديها جيوش، لكن في هذا البلد للجيش دولة. وهذا ما رأيناه ليس فقط في الانقلابات الدورية التي خطط لها الجنرالات الباكستانيون على مدى عقود، بل يتمثل أيضًا من خلال مجموعة واسعة من المصالح الاقتصادية التي يحافظ عليها الجيش، فضلًا عن النفوذ المتعجرف الذي يمارسه كبار الضباط في كل منعطف تقريبًا من نضال باكستان المتقطع من أجل الديمقراطية والسيادة والاستقلال (عن القوى الخارجية وتحديدًا الولايات المتحدة) والتي يقودها المدنيون في الغالب.
ما هي الأسباب الخفية لاعتقال خان؟
قبل عقد من الزمان، شهدت باكستان أول انتقال سلمي للحكومات الديمقراطية، وكانت هناك بارقة أمل لدى بعض المحللين بأن الجيش كان ينكفئ ببطء الى ما وراء المشهد السياسي في البلاد.
لكن ثبُت أن ذلك لم يدم طويلاً، إذ أبرزت الدراما التي حدثت في الأسابيع الأخيرة في أعقاب اعتقال رئيس الوزراء السابق عمران خان -مع قيام محكمة بالحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات بزعم "تهم فساد، تركزت على إخفاء أصول مادية ناجمة بيع هدايا الدولة التي حصل عليها خلال فترة وجوده في المنصب"- كيف أن الجنرالات لا يزالون يسيطرون على كافة القرارات، الى حدّ أنهم يعتبرون المحركين الرئيسيين لمؤسسة مدنية - عسكرية انقلبت مرارًا وتكرارًا على المسؤولين المنتخبين الذين لا يخدمونها.
من هنا يرى خان وأنصاره أن إدانته وسجنه يعدان تدخلًا سياسيًا صريحًا يستهدف إحباط ترشيحه في الانتخابات المقرر إجراؤها في وقت لاحق من هذا العام، والتي من المقرر أن يسبقها حلّ البرلمان الباكستاني في وقت لاحق من هذا الأسبوع.
كيف تدحرجت العلاقة بين خان والجيش؟
لم يكن الجيش الباكستاني بعيدًا عن هذه التطورات. فخلال السنوات الأخيرة تحول خان (بطل الكريكيت الوطني) إلى زعيم شعبي عمل على هامش المشهد السياسي في البلاد، حتى تمكن هو وحركته، المعروفة باسمها المختصر PTI، من اقتحام الحياة السياسية في باكستان وبقوة، في النصف الأول من العقد الحالي.
ومع فوز PTI "حركة الإنصاف" بفارق ضئيل في الانتخابات التي جرت في عام 2018، ثم تولي خان منصبه، اصطدمت رؤاه السامية لبناء دولة الرفاه الإسلامية في البلاد بالحقائق الصعبة للدولة المنقسمة سياسيًا والتي تتأرجح بشكل دائم على حافة أزمة الدين العام.
لذا، وبعد عامين من انتخاب خان في العام 2018 بدأت علاقته بالجيش بالفتور، ثم أصبح واضحًا تمامًا أن رئيس الوزراء وقائد الجيش لم يعودا على نفس الخط، لا سيما مع قيام خان بقياد حملة ضد الفساد استهدفت أحزاب المعارضة، التي يضم الكثير منها زعماء من السلالات الاقطاعية، والعائلات الثرية (القديمة) الفاسدة.
وتعقيبًا على ذلك قال أسفانديار مير، الباحث في "معهد الولايات المتحدة للسلام" إنه "يمكن اعتبار محاولتهم (اي المعارضة) للإطاحة بخان بمثابة خطوة للتهرب من مزيد من التدقيق. ومع ذلك، أدت جهود مكافحة الفساد هذه إلى توقف البيروقراطية الحكومية. وهو جزء من نهج خان الأوسع نطاقا".
أكثر من ذلك، في الفترة التي سبقت الإطاحة به اشتبك خان مع القيادة العسكرية بشأن اختيار المرشحين للمناصب العسكرية الرئيسية، خصوصًا بعد تأخر خان في التوقيع على تعيين رئيس جديد للمخابرات، إضافة الى تحميل حكومته مسؤولية فشل معالجة التضخم والديون المرتفعة.
وما زاد الطين بلة، هو تصاعد الخلاف بين خان والجيش وبشكل متزايد بشأن السياسة الخارجية، إذ انتقد خان في كثير من الأحيان تحالف قيادة الجيش مع واشنطن وقرارها "خوض حروب أمريكية" في المنطقة بتكلفة كبيرة لباكستان (التي اتهمته بدورها بتحريض طالبان على واشنطن احيانا). ومع تدهور العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، تقرّب خان من بكين بشكل كبير، لا سيما في السنوات القليلة الماضية.
ما قصة خلاف خان مع امريكا؟
تعود أصول اتهامات خان المدوّية لامريكا، الى برقية دبلوماسية أرسلها السفير الباكستاني لدى واشنطن إلى بلاده في العام 2022، بعد اجتماعه مع المسؤول الكبير في وزارة الخارجية دونالد لو. حينها وجه المسؤول الأمريكي انتقادات للسياسة الخارجية لباكستان. المثير أن واشنطن، اعترفت بالمذكرة بشكل غير مباشر.
وتبعًا لذلك، اتهم خان في آذار 2022 الحكومة الأمريكية والمعارضة الباكستانية بالتآمر ضده مما استدعى نفيًا امريكيا، وأثار في الوقت نفسه استياء القيادة العسكرية التي كانت تسعى للحفاظ على علاقة عمل مع الولايات المتحدة. وهنا غني عن التعريف أن الجيش عزز منذ عقود شراكة استراتيجية وثيقة مع الولايات المتحدة والغرب.
ليس هذا فحسب، لعبت رسائل خان العلنية دورًا جزئيًا في إثارة واضطراب العلاقة مع الولايات المتحدة - وبالتالي مع الجيش الباكستاني الذي يريد أن يكون أقرب إلى الولايات المتحدة.
ففي أعقاب الأزمة الاوكرانية، ظهر توجه خان (المخالف للجيش) بشكل جليّ وواضح من خلال زيارته موسكو عشية انطلاق العمليات الحربية على اوكرانيا، ثم قراره لاحقًا، البقاء على الحياد.
من هنا، واجه خان سيلًا من عشرات القضايا القانونية ضده، توجت باعتقال اولي له في أيار الماضي، مما دفع بأنصار "حركة الانصاف" الغاضبين إلى مهاجمة منشآت عسكرية متعددة.
وبالرغم من ذلك، وقبيل اعتقاله الأخير، لم يستسلم خان لتسلط الجيش، بل أمعن في تحديه للمؤسسة منذ شهور. فقبل أيام قليلة من اعتقاله مؤخرًا ، ذهب إلى برنامج HARDtalk على "بي بي سي" وهاجم الجيش على وجه التحديد، قائلا: "لقد استولى الفاشيون على البلاد، وهم مرعوبون من الانتخابات". واضاف "السبب في معاناتي هو أنهم يعرفون أنه في الانتخابات سوف نفوز بأيدينا. وبسبب ذلك، هم يقومون بتفكيك الديمقراطية".
بالمقابل، كان رد فعل الجيش قاسيًا، إذ قام باعتقال الآلاف من أنصار حركة "بي تي آي"، بينما حوكم بعضهم أمام محاكم عسكرية، كما استقال العشرات من السياسيين من الحزب خوفًا من الاعتقال. أما الأصوات المتعاطفة في وسائل الإعلام، فقد التزمت الصمت وتم إسكاتها.
ما هو دور الجيش في إقصاء خان وما الهدف؟
عمليًا، لم يكن الجيش الباكستاني الذي يقوم بعملية هندسة للحياة السياسية في البلاد، بمنأى عما حدث مع خان. أما الهدف الأساسي هنا فهو إقصاؤه من العملية السياسية، لأنه لم يعد مطيعًا بشكل يُعتمد عليه، لا سيما انه يحظى بالدعم الشعبي الذي يمنحه رأس مال سياسيًّا مستقلًّا عن الجيش.
زد على ذلك، أن التأثير المميز لخان في السياسة - وشعبيته - قد تجعله تهديدًا فريدًا لكبار الضباط. والأكثر أهمية أن الجيش يشعر بالقلق أيضًا من أن خان يجد قاعدة دعمه الرئيسية بين الطبقات الوسطى الحضرية المؤيدة تقليديًا للجيش في البنجاب، أكبر مقاطعة في باكستان ومعقل التجنيد العسكري.
في المحصلة، في باكستان وجد القادة المدنيون الذين تحدوا الجيش أنفسهم في السجن، أو جرى إعدامهم أو نفيهم، وهو ما جرى مع خان. ومع ذلك، لخصت افتتاحية صحيفة Dawn الباكستانية اليومية يوم الأحد الماضي مستقبل خان بالقول إن "الحرب القانونية المدعومة من الجيش قد لا تهزم خان، لكنها بالتأكيد ستضر بالديمقراطية المتقطعة في باكستان".
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024