آراء وتحليلات
العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا: بين تصدّع الحلف الغربي وحتمية النصر الروسي
حيّان نيّوف
ذهب الكثير من المحللين والمنظّرين السياسيين والعسكريين ومنذ بداية العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا في شباط/فبراير من العام الفائت إلى القول بأنّ التأخّر الروسي في حسم الصراع الأوكراني سيضع موسكو في مأزق حقيقي، واستدلّوا على ذلك بأن طول مدة الحرب سيؤدي إلى استنزاف روسيا اقتصادياً ومالياً خاصةً في ظلّ العقوبات الغربية التي طالت كل القطاعات الإنتاجية والمصرفية والمالية الروسية، وبلغ الشطح الإستقرائي لهؤلاء حداً جعلهم يعتقدون بانهيار روسيا من الداخل في حال طال أمد الصراع.
في كثير من الأحيان كانت تلك القراءات تأتي استنساخاً للبروباغندا الإعلامية الغربية التي رافقت الصراع منذ انطلاقته وكجزء من الحرب النفسية والإعلامية الموجهة ضد روسيا، وأما في حال صدق النوايا فإن تلك القراءات لم تخرج من دائرة السطحية وعدم الإلمام بالحد الادنى لطبيعة الصراع وأدواته وخلفياته وأهدافه والإمكانات الحقيقية للاعبين الرئيسيين فيه.
اليوم وبعد ما يقارب 20 شهرا على انطلاق العملية العسكرية تبدو الحقيقة ناصعة، فالروس تمكنوا ببراعة من احتواء كافة الآثار المترتبة عليه سياسيا واقتصاديا وماليا و تجاريا وعسكريا وحتى بشريا إلى حد بعيد، فالإقتصاد الروسي في أحسن احواله، والروبل في حالة استقرار، واحتياطات النقد الاجنبي والذهب في ازدياد والصادرات الروسية المتنوعة ما زالت تشق طريقها إلى الاسواق الخارجية وأوجدت لنفسها أسواقا بديلة، والتضخم ضمن حدوده الطبيعية، وحملة التجنيد والتطوع في القوات الروسية في ازدياد، وسياسياً وهو الأهم فقد فشل الغرب في إقناع العالم بأن العملية العسكرية الروسية هي غزو دولة لدولة، بل إن معظم دول الجنوب العالم نأت بنفسها عن الإصطفاف مع هذا الطرف او ذاك وذهب الكثير منها وعلى الأخص دول الجنوب العالمي إلى توصيف ما يجري بأنه خلاف حدودي بين دولتين.
لسنا هنا في وارد الحديث عن الأسباب والعوامل التي أسهمت بنجاح روسيا بإفشال السيناريوهات الغربية التي أعدت لها، وهذا جانب تحدثنا عنه في مقالات سابقة عديدة، إنما الحديث هو عن النتائج التي أصابت الحلف الغربي المعادي لروسيا والمتعاكسة بطبيعة الحال مع الإستقراء المسبق لدى الكثيرين، وعما يمكن استقراءه اليوم للمرحلة القادمة.
لعل أهم ما يجب ملاحظته اليوم هو الإنقسام السياسي العميق والمتنامي داخل العديد من دول الحلف الغربي والسجال الإجتماعي والسياسي داخل تلك الدول فيما يخص الموقف من الحرب في أوكرانيا وفيما يخص الحجم الهائل للدعم المقدم لها على حساب المعالجات الملحّة للاوضاع الإقتصادية والمعيشية لتلك الدول، ثم ما نتج عن ذلك السجال والإنقسام من تبدل في الخارطة السياسية داخل تلك الدول بفعل تغير المزاج الشعبي في الغرب وتحوله إلى معارضتها ومعارضة الدعم السخي المقدم لأوكرانيا، وتأثير كل ذلك على تماسك الحلف الغربي بقيادة واشنطن والذي بدأت ملامح تصدعه بالظهور.
البداية من جورجيا الواقعة في الجنوب الغربي لروسيا، فالبرغم من ان تلك الدولة كانت قد شهدت في السابق ثورة ملونة برعاية أمريكية نتج عنها سلطات موالية للغرب، غير أن رئيس وزرائها وحكومته قد نأوا ببلادهم عن الدخول في مستنقع المواجهة مع روسيا منذ انطلاق العملية العسكرية الروسية وفضلوا الحفاظ على علاقات متوازنة مع موسكو وبما يحفظ لهم الإستقرار الإجتماعي والاقتصادي وفي مجال الطاقة، وذلك بالرغم من الضغط الامريكي المتواصل والذي بلغ حد التحريض على قيام ثورة ملونة جديدة.
وبالإنتقال إلى المجر التي كان موقفها الأكثر بروزا لجهة الرفض العلني للعقوبات الغربية على روسيا وساهمت بإفشال الكثير منها او بإبطائها، وكان لافتا التناقض بين مواقفها ومواقف شركائها في الإتحاد الاوروبي وحلف الناتو، وهذا التناقض لم يكن لأسباب وعوامل اقتصادية وسياسية فقط، بل إنه في جانب مهم منه يرجع لأسباب ايديولوجية متعلقة بالموقف من الليبرالية الجديدة ونظرتها للأجناس والمثلية وغيرها بما يتلاقى مع موقف موسكو المتشدد بهذا الخصوص، وهو الأمر الذي دفع بالغرب إلى التشكيك بديمقراطيتها واتهامها بالإبتعاد عن الثقافة الغربية ومبادئها، وعلى الرغم من ذلك بقيت مواقف المجر على حالها لجهة دعوتها للحوار والسلام ورفض سياسات تسليح اوكرانيا وسياسة فرض العقوبات على موسكو.
المفاجأة جاءت من سلوفاكيا الدولة العضو في الإتحاد الأوروبي وحلف الناتو والتي شهدت مؤخرا انتخابات عامة شكلت نتيجتها صدمة كبيرة لواشنطن بالرغم من تدخلها الكبير للتأثير عليها، حيث أظهرت النتائج فوز اليسار بزعامة "روبرت فيكو" على حساب التيار الليبرالي الموالي لواشنطن، ويعتبر "روبرت فيكو" من الموالين لروسيا ومن الرافضين لفرض عقوبات عليها، والرافضين تقديم الدعم لأوكرانيا.
أما بولندا التي كانت من أكثر دول الغرب تطرفا في مواقفها ضد موسكو وأكثرها دعماً لكييف ضد موسكو إلى الحد الذي كادت معه أن تدخل الحرب بشكل مباشر في أكثر من مناسبة، وتلقت تهديدات مباشرة من روسيا، فقد انقلبت مواقفها في الآونة الأخيرة خاصة مع إنسحاب موسكو من صفقة الحبوب والذي تسبب بنشوء خلافات تجارية واقتصادية بينها وأوكرانيا بعد أن قيدت وارسو تصدير الحبوب والمنتجات الزراعية الأوكرانية عبر أراضيها لما له من تأثير سلبي على اقتصادها المعتمد على الزراعة، ولعل التصريح الصادر عن رئيس الوزراء البولندي "ماتيوس مورافيتسكي" والذي حذر فيه من إبرام صفقة بين أوكرانيا وألمانيا على حساب بلاده هو خير دليل على الإنهيار المتسارع للعلاقات البولندية الاوكرانية، حيث قال "بينما كنا نحن من قدم أكبر قدر من المساعدة في الوقت الذي أراد فيه الألمان إرسال 5000 خوذة إلى كييف المحاصرة. من المفيد لك ألا تنسى ذلك، أيها الرئيس زيلينسكي"، بينما ذهب وزير خارجيته للدعوة إلى الإنشغال بتسليح جيش بولندا بدلا من ارسال المساعدات العسكرية لأوكرانيا.. بولندا هي الاخرى باتت على مشارف انتخابات مصيرية حيث يلعب الموقف من الحرب الاوكرانية عاملا حاسما في التأثير على نتيجتها، وسواء فازت الحكومة الحالية او المعارضة فإن كلا الطرفين لم يعد بمقدوره إصلاح العلاقة البولندية الاوكرانية بعد دخولها مرحلة التنافس.
الإنقسام والسجال السياسي بسبب الحرب الاوكرانية لم يقتصر على اوروبا بل انتقل إلى الضفة المقابلة للإطلسي مع اقتراب انطلاق السباق الرئاسي نحو البيت الأبيض، حيث تحولت المساعدات الهائلة التي قدمتها إدارة الرئيس الأمريكي بايدن لكييف والتي بلغت 43 مليار دولار إلى موضع نقد شديد من قبل خصومه الجمهوريين خاصة بعد فشل الهجوم الاوكراني المضاد، وكان آخر فصول الإنقسام قد ظهر من خلال إقرار خطة الإنفاق الحكومي في الكونغرس من دون ان تتضمن مساعدات لأوكرانيا، وبات على ادارة بايدن البحث عن مصادر لتمويل اوكرانيا من خارج موازنة الإنفاق الحكومي وهي في حال فشلت في ذلك سيعني حتما انهيارا سريعا لكييف أمام موسكو، في الوقت الذي يجاهر فيه التيار اليميني في الحزب الجمهوري وعلى رأسه ترامب بالرغبة بإيقاف الدعم العسكري و المالي لأوكرانيا في حال الفوز بالإنتخابات الرئاسية.
والخلاصة؛ فإنه يمكن القول بأن تصدعات كبرى قد أصابت الحلف الغربي المعادي لروسيا وأن تلك التصدعات ستكون في ازدياد واتساع، في الوقت الذي تستغل فيه موسكو هذه التصدعات، ويراهن فيه بوتين على عامل الوقت مع اقتراب الشتاء، ومن غير المستبعد أن يلجأ بوتين إلى وضع الغرب أمام خيارين: إما الإعتراف بالحدود الجديدة لروسيا والبحث عن صيغة للسلام أو القيام بهجوم روسي مضاد لضم مزيد من الأقاليم الأوكرانية امتدادا من خاركوف في الشمال الشرقي ووصولا إلى أوديسا في الجنوب الغربي، لا شك بأن بوتين ما زال يمتلك الكثير من الأوراق وعلى كل الأصعدة ويدرك جيدا التخلخل الذي أصاب خصومه في الغرب ويستعد لإعلان نصره سواء على المدى التدريجي او بالضربة القاضية.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
29/11/2024