آراء وتحليلات
لماذا فعّل أردوغان الخطة (ب) للاطاحة بالنظام السوري؟
محمود الأسعد
لقد مرّ شهرٌ كامل على التغيرات الجذرية التي شهدتها سورية وما زالت منذ الإطاحة بنظام الرئيس السابق بشار الأسد واستيلاء "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً والمصنفة إرهابية) على السلطة بدعم واضح وعلني ومكشوف من قبل تركيا، وإلى اليوم لا تزال الكثير من الأسئلة المطروحة حول ما جرى وأسبابه بلا إجابات شافية أو مقاربات مقنعة، هذا بالإضافة إلى الكمٍّ الكبير من الضخ الإعلامي الموجه والمتعمد والهادف لتضييع الحقائق أو تحريفها لغايات سياسية وغير سياسية.
وفي ظلّ ذلك فقد يكون من العبث اليوم البحث في تفاصيل ما جرى أو محاولة معرفة تراتبيته وأحداثه، وخاصة ما يتعلق منه بالأيام والساعات الأخيرة لسقوط النظام السوري. غير أنه من المهم أن نلقي الضوء على الأسباب والعوامل والحسابات السياسية التي تسببت بهذا السقوط وعجلت حصوله وعلى الأخص ما يتعلق منها بالدور التركي، وبطبيعة الحال بحسابات وسياسات النظام السوري السابق في مواجهة هذا الدور التركي.
شكّلت نتائج الانتخابات الأمريكية في 5-نوفمبر 2024 نقطة تحول غير تقليدية على الصعيد العالمي، وبدا واضحاً وفقاً للنتائج التي سيطر فيها الرئيس المنتخب دونالد ترامب وفريقه الجمهوري على كامل السلطات التشريعية والقضائية بالإضافة للبيت الأبيض أن العالم يتحضر لأحداث دراماتيكية خارج الحسابات التقليدية التي كان يسير عليها في عهد إدارة الرئيس "الديمقراطي" جو بايدن، بما في ذلك الشرق الأوسط بكامل ملفاته وتعقيداته، وهو ما أشارت إليه تصريحات ترامب خلال حملته الانتخابية.
أدركت تركيا وقيادتها خطورة التحول القادم على العالم والشرق الأوسط مع وصول ترامب، بل إن المخابرات التركية سارعت لنشر تقرير خاص حول هذا الملف بعد أيام من إعلان نتائج الانتخابات التركية، تضمن الانعكاسات التي يمكن أن تطول المنطقة وتأثيرها في تركيا بفعل ذلك، ولعل هذا التقرير قد جرى إعداده مسبقاً قبل الانتخابات الأميركية كخطوة استباقية استشرافية، وشمل التقرير خمسة تحذيرات يتوجب على تركيا مواجهتها كنتيجة للسياسات التي يمكن أن ينتهجها ترامب، وهذه التحذيرات هي:
١ـ صعود التطرف في المنطقة ما يؤثر في جهود تركيا في مقاومة الإرهاب.
٢ـ قيام حرب إقليمية يتحول معها حزب العمال إلى وكيل عسكري لبعض الجهات الفاعلة.
٣ـ امتلاك إيران السلاح النووي، ما يدفع إلى تسريع عملية التسليح النووي من خلال إنهاء سياسة الغموض النووي "الإسرائيلية".
٤ـ تعزيز السياسات "الإسرائيلية" التوسعية، وتشجيع الجهات المناهضة لتركيا، مثل إدارة قبرص الجنوبية في شرق البحر المتوسط.
٥ـ إبقاء القضية الفلسطينية دون حل، ما يسهم في زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط.
وبالإضافة لذلك فقد أعرب التقرير عن القلق من الشخصيات التي اختارها ترامب لمراكز القرار مثل ' تولسي غابارد" المرشحة لرئاسة الإدارة الوطنية للاستخبارات الأميركية والمعروفة بمواقفها المتشددة تجاه تركيا و أردوغان، ولها تصريح شهير في العام 2020 قالت فيه: "تركيا تدعم إرهابيي تنظيم الدولة والقاعدة من وراء الكواليس منذ سنوات. وأردوغان ليس صديقنا. إنه أحد أخطر الدكتاتوريين في العالم، وليس من حق الحكومة الأميركية ووسائل الإعلام مساعدة هذا الإسلامي المصاب بجنون العظمة".
لا شك بأن تقرير الاستخبارات التركية يعكس قلقاً كبيرًا في تركيا ولدى قيادتها، وبلا شك فإن هذا التقرير وما تضمنه دفع بالقيادة التركية للتفكير وبشكل عاجل في خلط الأوراق في الشرق الأوسط قبل دخول ترامب البيت الأبيض، ومن الواضح أن أنقرة اتخذت قراراً على أعلى المستويات للتحرك، خاصة أن الظروف الإقليمية مؤاتية لذلك والفرصة لن تتكرر، فالمنطقة قد استنزفت إلى حد بعيد بالصراع المباشر منذ 7 أكتوبر 2023 ومفرزاته على الكيان "الإسرائيلي" وجبهات الإسناد، وكذلك على دول الإقليم بما فيه سورية، كما أن إدارة بايدن مستعدة للمساهمة بأي تحرك تركي يسهم في وضع العراقيل في وجه ترامب، والأمر ذاته ينطبق على "إسرائيل" التي كانت تترنح تحت ضربات المقاومة وجبهات الإسناد، فيما كانت روسيا قد اتخذت قرارها بحسم المعركة في أوكرانيا ما أمكن، قبيل وصول ترامب، واستعدادًا لوقف إطلاق نار محتمل على أساس خطوط النار على أرض الواقع.
تضمنت الخطة (أ) أن تضغط تركيا باتجاه اتفاق عاجل مع نظام الرئيس بشار الأسد في دمشق يشمل اتفاقاً بين الحكومة والمعارضة المدعومة من تركيا، ويأخذ بالاعتبار مطالب تركيا لجهة الأمن على الحدود، و اتفاقاً بين دمشق وأنقرة على مكافحة تنظيم حزب "العمال الكردستاني" ووحدات حماية الشعب الكردية، وأعلن اردوغان مرارًا استعداده للقاء بشار الأسد من أجل تحقيق هذه الخطة الاستباقية .
في المقابل كان بشار الأسد مدركاً لحجم المأزق التركي الذي أورده تقرير الاستخبارات التركية، وكان مدركاً أيضاً لخلفيات إلحاح أردوغان على اللقاء به، ووقع اختيار الأسد على خطة مقابلة للخطة (أ) التركية، تضمنت خطة الأسد قراراً بعدم الاستجابة للعرض التركي، والمماطلة في ما يخص التفاوض مع تركيا وتحمل الضغوط التركية وتقطيعاً للوقت حتى وصول ترامب للبيت الأبيض والذي سيؤدي بطبيعة الحال حسب اعتقاده إلى الدفع بتركيا لتقديم المزيد من التنازلات لدمشق ويفسح المجال أمام الأسد لمزيد من المناورة، وربما كانت حسابات الأسد قائمة ايضاً على اتصالات مع جهات عربية كالإمارات والسعودية ومصر، بالإضافة إلى أنه قد يكون اطمأن لجهة قرب التوصل لوقف إطلاق نار في لبنان وغزة، وهو ما سيشكل بحسب تقديراته عامل أمان إضافي بعد تهديد فرضه طوفان الأقصى، وحاول خلاله الابتعاد عن الدخول المباشر والعلني فيه منذ البداية، وتحفظ عن الرد على الهجمات "الإسرائيلية" المتكررة على بلاده .
في ظل موقف الرئيس الأسد لم يكن أمام أردوغان سوى الانتقال للخطة (ب) والتي على ما يبدو أنه قد جرى الإعداد لها مسبقاً، وتضمنت الخطة المسارعة للتواصل والتشبيك مع إدارة بايدن وحكومة نتنياهو لإسقاط الأسد بالطريقة التي شهدها العالم، وجرى استغلال دقيق للظروف الإقليمية والدولية التي أشرنا إليها، وكان القرار التركي حاسماً لجهة عدم السماح للأسد بالمراوغة والمماطلة وتقطيع الوقت الذي تحول إلى عامل إستراتيجي بالنسبة لتركيا.
كان واضحاً، أن الرئيس الأسد لم يتوقع مطلقاً أن يلجأ أردوغان للخطة (ب) وأن يسارع لإقامة تحالف مرحلي مع بايدن ونتنياهو، وأن يرمي خلفه كل اتفاقياته السابقة مع طهران وموسكو، أو أن يتجاهل العامل العربي الذي ظن الأسد أنه يشكل عامل أمان إضافي.
يمكن القول بأن الأسد الذي كان مدركاً لحجم المأزق التركي لم يستطع تقدير حجم رد الفعل التركية على هذا المأزق، ولم يخطر بباله أن يذهب الأمر بأنقرة لاتخاذ قرار إستراتيجي بقلب المعادلات الإقليمية على حسابه، وهو ما يعكس عدم إدراك الأسد لخطورة اللحظة المفصلية التي يمر بها الإقليم والعالم، ومما يثبت ذلك كان عدم الاستعداد لهذا الخيار على الأرض من الناحية العسكرية، وعدم أخذه بالاعتبار سياسياً من خلال إهماله لإستراتيجية العلاقات مع طهران وموسكو، وفي لحظة مفصلية وجد الأسد نفسه مكشوفاً على الصعيدين الداخلي والخارجي من دون أن يمتلك خطة بديلة أو احتياطية للمواجهة، وتشير التسريبات إلى أن الأسد حاول التراجع لاحقاً وخاصة بعد سقوط حلب، وسعى عبر الوسيط العراقي لإعادة التواصل مع أنقرة من أجل العودة للخطة (أ) التي كان يريدها أردوغان، لكن الجانب العراقي أبلغه بأن الوساطة فشلت وأن القرار التركي قد صدر ولا تراجع للوراء.
أخيرًا؛ لا بد من القول أن في عالم السياسة على وجه العموم، وخلال الصراعات المفصلية والتحولات الكبرى على وجه الخصوص، فإنه من الخطأ الإستراتيجي أن تترك الدول نفسها مكشوفة للحظة واحدة أو ساعة واحدة، فما بالك أن تختار اللعب وأنت مكشوف لمدة تقارب الشهرين؟! تلك خطيئة إستراتيجية لا مجال لمعالجتها والهروب من نتائجها.
تركيابشار الاسدرجب طيب أردوغانسورية
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
08/01/2025