خاص العهد
الاستيراد يتراجع والثقافة الصناعية تتعزّز.. بهذه الشروط نكتفي ذاتياً
فاطمة سلامة
ما الذي ينقص لبنان حتى يصل الى مرحلة يمتلك فيها شبه اكتفاء ذاتي فتُنتج مصانعه ما نستورده من الخارج؟. يبدو هذا السؤال ملحاً اليوم مع انخفاض القدرة على الاستيراد من الخارج وسط تحليق سعر صرف الدولار. من يُدقّق في فواتير الاستيراد خلال الأعوام الماضية يستغرب الكم الهائل من البضائع المستوردة على قاعدة "ما هبّ ودب". اليوم، انخفضت فاتورة الاستيراد ما يقارب النصف، فلبنان الذي كان يستورد بنحو 20 مليار دولار في السابق، بات اليوم يستورد بما بين 9 الى 10 مليارات وفق تقديرات اقتصادية. وكل هذا وسط انخفاض القدرة الشرائية بشكل كبير جراء الأسعار الفالتة من عقالها.
هذا الواقع يدفع بنا الى الحديث عن واقع الصناعة اللبنانية، والتحديات التي تواجهها. والحق يقال إن الصناعة المحلية اليوم تشهد التفاتة مهمة. التفاتة أوجدت ثقافة صناعية كانت غائبة، وعزّزت من حضورها -بالإضافة طبعاً الى جهود المعنيين الكبيرة- الأزمة الحالية التي يمر بها لبنان والتي جعلت الاستيراد عزيزاً بعدما كان سهل المنال على قاعدة "ربّ ضارة نافعة".
حب الله: تعزيز الثقافة الصناعية من أهم ما أنجز
وزير الصناعة في حكومة تصريف الأعمال الدكتور عماد حب الله يعتبر في حديث لموقع "العهد" الإخباري أنّ أهم ما أنجز على الصعيد الصناعي مؤخراً هو خلق جو في البلد يسوده إقبال على الصناعة، وهذا شيء جديد بالنسبة لثقافة المواطن والاقتصاد اللبناني حيث دخلت الصناعة كشرط أساسي في أولوياتنا. لدى سؤاله عن أبرز ما أنجزته الوزارة على الصعيد الصناعي يدرج حب الله مجموعة عناوين أولها تجييش البلد لإيلاء الأهمية للصناعة. ثانيها إنجاز دراسات إحصائية حول الاستيراد والتصدير لتحديد الأولويات فيما يتعلق بالصناعة اللبنانية حيث أنجزت الوزارة الخطة والاحصائيات التي مكّنتنا من تحديد الأولويات. ثالثاً، يلفت حب الله الى أننا تمكنا من تأمين الدعم للقطاع الصناعي، وهو القطاع الوحيد الذي جرى دعمه عبر دفعات مالية، فيما جرى تحرير بعض أموال أصحاب هذا القطاع من المصارف لاستمرارية عملهم. وهنا يؤكد حب الله أننا تمكنا من تأمين دعم كبير للصناعيين، ومن جملة الدعم الذي قدّم كان للمواد الأساسية. رابعاً، جرى دعم الصناعيين لجهة الأوقات التي يجب أن يعملوا بها في ظل الإغلاق التام في البلد، حيث بقيت أبواب الصناعة مفتوحة. خامساً يلفت حب الله الى إمرار قانون في اللجان المشتركة يدعم الصناعة والمنتج اللبناني في مناقصات إدارات الدولة فيعطي الأولوية لهذا المنتج حتى لو كان السعر أكثر بـ20 بالمئة من المنتج الغربي.
بهذه الشروط نكتفي ذاتياً..
هل نحن قادرون على أن يكون لدينا شبه اكتفاء ذاتي؟ يجيب حب الله عن هذا السؤال بالتأكيد نستطيع شرط أن يتأمن أمران. أولاً أن تضع الدولة اللبنانية الاقتصاد في أولى أولوياتها. ثانياً أن تؤمن الدعم المالي للمستثمرين لتأمين المواد الأولية والآلات الصناعية وتبادر لتعديل بنود الاتفاقيات بين لبنان والخارج كاتفاقية الاتحاد الاوروبي واتفاقية "تيسير" العربية وغيرها. كما يؤكّد حب الله على أهمية تخفيف القيود على الصناعيين لناحية تخفيف الكلفة بالنسبة للنقل والجمارك وغيرها من الشروط. اذا تمّت هذه الأمور نكتفي ذاتيا -يقول حب الله- وان كانت المسألة تحتاج القليل من الوقت لكن باستطاعتنا الوصول اليها.
بكداش: المنتج اللبناني يتمتع بالمواصفات العالمية
نائب رئيس جمعية الصناعيين زياد بكداش يستهل حديثه لموقعنا بالإشارة الى أن وضع الصناعة اليوم أفضل من السابق خصوصا أن الشعب اللبناني وبعد سنوات طويلة اضطر مكرهاً لشراء المنتج اللبناني لرخص ثمنه مقارنةً بالمنتج المستورد ولتواجده في الأسواق وسط غياب بعض المنتجات المستوردة. وفق بكداش، فإنّ المنتج اللبناني يتمتع بالمواصفات العالمية، فالمواد الغذائية والاستهلاكية ومعظم الصناعات المحلية هي ضمن الجودة المطلوبة والمواصفات العالمية أضف الى ذلك أنها أرخص من الخارج. هذه المواصفات ولّدت ثقافة صناعية لدى المواطن اللبناني جراء اقتناعه بأنّ المنتج اللبناني يستأهل الاتكال عليه. هذا بالنسبة الى المواد الغذائية والاستهلاكية، أما باقي الصناعات، فقد تأثرت بطبيعة الحال كما في البلدان الأخرى نتيجة أزمة "كورونا" بحيث انخفضت مبيعاتها.
تأمين المواد الأولية يحافظ على الصناعة اللبنانية
يتحدّث بكداش عن المشاكل التي تعترض درب الصناعة اللبنانية، فيوضح أنه ولكي نتمكن من الحفاظ على الصناعة اللبنانية في كل قطاعاتها، علينا حل مشكلة واحدة تتمثل بتأمين المواد الأولية. يلفت الى المعاناة التي تواجهها الصناعة في هذا الصدد، فبعدما أوقفت المصارف العام الفائت سحب الودائع، تواصلنا مع مصرف لبنان. حينها، تمكّن بعض الصناعين من الحصول على المواد الأولية ضمن السلة المدعومة، والبعض الآخر تمكّن من سحب بعض الأموال لشراء المواد الأولية، إلا أن الأكثرية لم تتمكن من تأمين المواد الأولية. لذلك، فإنّ جمعية الصناعيين اليوم ولتأمين المواد الأولية بصدد العمل مع مؤسسات خارجية لديها صناديق استثمارية يشارك فيها بعض اللبنانيين في الخارج، ومصرف لبنان برقم لا بأس به. وهنا يشير بكداش الى أنّ هناك عدة طلبات موجودة حاليا ولكن الأمر يحتاج بالتأكيد الى بعض الوقت.
كي نتمكن من تحسين اقتصادنا يجب أن تبقى الأموال في لبنان ولا تذهب الى الخارج
وردا ًعلى سؤال حول ما إذا انعكست الأزمة الحالية التي أدّت الى خفض الاستيراد إيجاباً على الصناعة اللبنانية على قاعدة "رب ضارة نافعة"، يوضح بكداش أن هذا الكلام ينطبق بالتأكيد على بعض القطاعات، فنحن لدينا طاقة انتاجية لتأمين جميع النقص المتأتي من قلة الاستيراد؛ لكن وبما أن الاستهلاك انخفض في لبنان جراء الأزمة لم ترتفع مبيعات المصانع اللبنانية المتعلقة بالمواد الغذائية والاستهلاكية سوى بحدود الـ20 بالمئة. وفق بكداش، لو كنا ضمن وضع طبيعي وبعيداً عن أزمة "كورونا" لكان وضع هذين القطاعين الأساسيين أفضل بكثير. وهنا يشدد بكداش على ضرورة أن يعرف المواطن اللبناني أن أي منتج لبناني يشتريه من "السوبرماركت" في لبنان فإن 60 الى 90 بالمئة من قيمة الأموال التي يدفعها تبقى في لبنان، عكس إن كان يشتري منتجا مستورداً من الخارج. حينها، فإنّ 60 الى 90 بالمئة من قيمة المنتج التي يدفعها في "السوبرماركت" ستذهب الى الخارج. بالنسبة لبكداش، كي نتمكن من تحسين اقتصادنا يجب أن تبقى الأموال في لبنان ولا تذهب الى الخارج.
ويلفت بكداش الى أنه وبحسب إحصاءات وزارة الصناعة هناك ما يترواح بين 4500 الى 5000 مصنع، من بينها 2500 مصنع أساسي. هناك الكثير من المصانع التي طورت خطوطا جديدة، ولهذه الأسباب بتنا نرى أصنافا موجودة في الأسواق لم تكن موجودة من قبل، على سبيل المثال الكمامات اذ برز لدينا 3 مصانع تنتج الكمامات، ومصانع تنتج آلات التنفس الاصطناعي. وهذا الأمر -من وجهة نظر بكداش- دليل على أنّ الصناعي اللبناني كان مغبونا وعندما سنحت له الفرصة تمكن من الوقوف على رجليه وتأمين ما لم يستطع تأمينه سابقاً.
ويؤكّد بكداش أنّ بإمكاننا الحصول على شبه اكتفاء ذاتي، لكن علينا أن لا ننسى أنه حتى المواد الغذائية هناك الكثير من المواد الأولية الأساسية لها تُستورد من الخارج. للأسف، القطاع الصناعي كان متروكاً على مدى 40 عاماً. يعطي بكداش مثالاً بسيطا يبيّن اللامبالاة بالمنتج اللبناني، فلبنان الذي ينتج حبوباً من ضمنها الحمص، كان يستورد 90 بالمئة من الحمص الحب من كندا لصناعة منتج الحمص بالطحينة.
وفيما يلفت الى أن الواقع الصناعي بات أكثر تطورا اليوم، يشدد على ضرورة تطوير الزراعة اذ يجب أن ينتعش القطاع الزراعي للحصول على اكتفاء ذاتي في مصانع المواد الغذائية.
عجاقة: الاستيراد انخفض خلال عام بنسبة تتراوح بين 50 الى 60 بالمئة
الخبير الاقتصادي البروفيسور جاسم عجاقة يؤكّد في حديث لموقعنا أنّ الاستيراد في لبنان انخفض بشكل تدريجي اذ بدأ مع التخلي عن الكماليات، بعدها بدأت عملية حصر الأساسيات بمواد معينة حتى وصلنا الى ما نستورده اليوم. وفق حسابات عجاقة، فإنّ الاستيراد انخفض خلال عام بنسبة تتراوح بين 50 الى 60 بالمئة، اذ كنا نستورد بحدود العشرين مليار دولار، بتنا نستورد ما بين التسعة الى عشرة مليارات دولار.
انخفاض كمية الاستيراد وخفض النوعية
وفيما يتعلق بالاستيراد الحالي، يوضح عجاقة أنّ لدينا ظاهرتين في ما يتعلق باستيراد المواد الأولية (القمح والمحروقات والدواء)، والغذائية الأساسية والكماليات الأساسية. ظاهرة انخفاض الكمية وظاهرة خفض النوعية اذ باتت أقل من النوعية السابقة.
ويعتبر عجاقة أن المطلوب من الدولة اللبنانية هو السعي لتقليل تعلق لبنان بالخارج، والتمكن داخلياً من سد قسم من حاجة السوق المحلي. بمعنى، أن يكون الهدف تعزيز الصناعة والزراعة للحصول على الاكتفاء بقسم معين. لكنّ عجاقة يؤكّد أن لدينا أولويات في هذا السياق. الأولوية الأولى للطعام، فـ85 بالمئة من استهلاكنا مستورد وعلى الحكومة وضع خطة لزراعة أو صناعة أول 50 الى 60 منتجا غذائيا في لبنان. هذا الأمر يحتاج الى تحفيزات ضريبية ووضع استراتيجية. على سبيل المثال، هناك أراض كثيرة بحكم "المشاع" للدولة من الممكن استصلاحها من قبل المواطنين، ونحن بهذه الطريقة نخلق فرص عمل ونسد حاجة السوق المحلي، والأمر ينطبق في مجال الصناعة الغذائية. وفق عجاقة، نستطيع من خلال التخطيط تغطية قسم مهم من المواد الغذائية داخلياً وخلال عام فقط، يختم عجاقة.