خاص العهد
"الوكالات الحصرية" جدار إسمنتي يمنع مكافحة الاحتكار
فاطمة سلامة
يُصنّف الاقتصاد اللبناني على أنّه اقتصاد حر. عقيدة الحرية الاقتصادية بمعناها العام تقوم على أنّ النظام الاقتصادي الأمثل هو النظام القائم على حرية المبادرات الفردية. الاقتصادي "آدم سميث" الملقّب بـ"أب الاقتصاد الحديث" كان من أوائل الداعين لهذه المبادرات ولتعظيم مصالح الفرد التي ستؤدي ـ بنظره ـ الى تعظيم مصلحة الاقتصاد الكلي. لكنّ "سميث" أشار في نظريته الى مبدأ التنافسية الكاملة غير الاحتكارية لضمان الكفاءة الاقتصادية. إلا أنّ التدقيق بواقع وحال النظام الاقتصادي في لبنان والمقارنة بين السمة والتطبيق أي بين الشعار الذي يحمله على أنّه اقتصاد حر وبين واقع السوق اللبناني يبيّن أنّ نظام لبنان الاقتصادي للأسف هو نظام حر بالاسم لكنّه بعيد كل البعد عن منطق ومنهج الحرية الاقتصادية.
يبدو النظام الاقتصادي والتنافسية في لبنان خطين متوازيين لا يلتقيان. وعليه، كيف يمكن وسم الاقتصاد اللبناني بالحر فيما تسود الاحتكارات مختلف جوانب الحركة الاقتصادية؟!. كيف يمكن وصفه بالحر وسط غياب تام لمبدأ التنافسية حيث تهيمن قلّة قليلة من الشركات والتجار على السلع والمواد وتسيطر "الوكالات الحصرية" على السوق؟!.
وللأسف، فإنّ "الوكالات الحصرية" تكرّست في التشريع اللبناني الذي أوجد البيئة لهذه الوكالات حيث تم تشريعها بالمرسوم الاشتراعي 34/67 المتعلق بالتمثيل التجاري عام 1967. تحتكر هذه الوكالات استيراد وتوزيع آلاف السلع في السوق اللبناني حيث تتحكّم 53 شركة بكامل مرتكزات السوق. على سبيل المثال، تسيطر 3 شركات فقط على سوق "الاسمنت". شركة واحدة فقط تسيطر على 50 بالمئة من قطاع الحديد والفولاذ، والباقي موزع على 5 شركات تتقاسمه بينها. تسيطر على قطاع الدواء 12 شركة تستورد بنسبة 80%. أما سوق المواد الغذائية فيسيطر عليه سبعة من المستوردين الكبار. 5 شركات كبرى تستورد مادة القمح، و5 أخرى تستورد مادة الطحين، فيما تسيطر 5 شركات على سوق السيارات.
علامة: نعمل لإقرار اقتراح قانون المنافسة
وبعد عقود على المشهد الاحتكاري برزت أصوات تدعو الى إلغاء الوكالات الحصرية بقانون يلغي الاحتكار ويعزّز المنافسة، إلا أنّ هكذا قانون بقي لسنوات رهينة وسط الغطاء السياسي والمذهبي المُفرد للعديد من الوكالات الحصرية. اليوم، ومع موجة الاحتكارات الكبيرة التي يشهدها السوق اللبناني حيث تعمد شركات تسيطر على السوق الى إخفاء السلع والمواد لبيعها لاحقًا بسعر أعلى في أبشع صور الابتزاز، تبدو الحاجة ملحة لصدور هكذا قانون وهو ما يتم العمل عليه في لجنة فرعية منبثقة عن اللجان النيابية المشتركة تشكّلت لدرس اقتراح قانون المنافسة. مقرّر اللجنة عضو كتلة "التنمية والتحرير" النائب فادي علامة يرى في حديث لموقع "العهد" الإخباري أنّ الوقت اليوم مناسب لإقرار اقتراح قانون المنافسة رغم خصوصية وحساسية هذا الاقتراح الذي لم يُقدّر له سابقًا الإقرار. برأيه، إلغاء الوكالات الحصرية كان موضوعًا حساسًا اتخذ طابعًا سياسيا مذهبيا في السابق، فأصحاب الوكالات كانوا محميين سياسيًا، وقبل 20 عامًا كان ثمة اعتراضات على إقرار هكذا قانون. أما اليوم فكل الكتل الممثلة باللجنة الفرعية متحمّسة لإقراره، وفق ما يقول علامة.
ويلفت علامة الى أنّ ثمّة حوالى 4 قوانين مُدرجة على جدول أعمال اللجنة الفرعية. مختلف هذه القوانين تصب في الهدف نفسه لناحية إلغاء الوكالات الحصرية وتحديد الاحتكار وتنظيم المنافسة أي فتح السوق للمنافسة العادلة. وفق علامة، فإنّ العمل جار حاليًا على دمج الاقتراحات باقتراح قانون موحّد. وهنا يلفت الى أنّ اللجنة تجتمع منذ حوالى الشهرين بمعدل جلسة كل أسبوع لمناقشة الاقتراحات مادة مادة بحضور وزير الاقتصاد وبعض المعنيين، فيما أجرت اللجنة لقاءات مع كافة المعنيين من جمعية المستهلك الى غرف التجارة والصناعة لإقرار الاقتراح.
يبدو علامة متفائلًا بإقرار القانون. برأيه، الوقت مناسب الآن، فالظروف تغيّرت ووضع لبنان الاقتصادي والمالي مختلف تمامًا عن السابق. ثمة تجاوب من كافة الكتل، وليس بإمكان أحد القول إنه يريد حماية المحتكرين والوكالات الحصرية.
جباعي: أكثر من 300 وكالة حصرية في البلد
الخبير الاقتصادي الدكتور محمود جباعي يقارب في حديث لموقع "العهد" الإخباري قضية الاحتكار والوكالات الحصرية انطلاقًا من نهج لبنان الاقتصادي الذي أهمل القطاعات المنتجة. بعد انتهاء الحرب الأهلية ودخول لبنان مرحلة المعالجة الاقتصادية بعد اتفاق الطائف للأسف اختارت الحكومات المتعاقبة أن تهمل قطاعات الصناعة والزراعة المنتجة والتي كانت بدورها تؤمن انتاجًا محليًا وتزيد من دورة الانتاج وتخفّف نسبة الاحتكار في البلد. أهمل لبنان هذه القطاعات وبات بحاجة لاستيراد أكثر من 85 بالمئة من حاجاته الزراعية والغذائية والصناعية.
هذا الأمر ـ برأي جباعي ـ لم يترك بابًا للمنافسة لإعطاء فرصة لأي شركة تريد الاستيراد من الخارج بأسعار مدروسة وكلفة حقيقية وهامش ربح محدّد ومضبوط ضمن رقابة وزارة الاقتصاد على البضاعة الآتية من الخارج لمعرفة كيف تتوزّع، فضلًا عن أنّه لم يكن هناك أي نمط تخطيط اقتصادي سليم. وعليه، ذهب السياسيون في البلد لاعتماد الوكالات الحصرية حيث كان لدينا أكثر من 300 وكالة حصرية، فيما تحتكر الكارتيلات ـ والتي هي عبارة عن عدة شركات ـ السلع بشكل جماعي (4 أو 5 شركات تستورد سلعة واحدة فتتفق في ما بينها على الاحتكار). وفق جباعي، هنا وردت فكرة الاحتكار في لبنان وسيطر المحتكرون على السوق اللبناني بجميع السلع المستوردة في القطاعات المختلفة من صناعة وزراعة ومواد غذائية ليحققوا أرباحًا خيالية بمباركة سياسية.
ويلفت جباعي الى أنّ لبنان كان من أغلى الدول في العالم، وبعدما وصلنا الى مرحلة الانهيار الاقتصادي للأسف استمرت الوكالات الحصرية بهامش ربح خيالي دون رقابة وزارة الاقتصاد لمعرفة أين تتوزع البضاعة ووسط عجزها عن السيطرة على الملف. طبعًا، نحن هنا ـ يقول جباعي ـ لا نحمّل وزارة الاقتصاد الحالية والقيمين عليها المسؤولية بل نحمّل النظام اللبناني الذي يأخذ كل صلاحيات وزارة الاقتصاد وقدراتها. وبالتالي يسيطر المحتكرون على الأسواق بـ"الطول والعرض" وبهامش ربح خيالي ما أغرق السوق اللبنانية خصوصًا مع الأزمة السياسية المستفحلة ووسط وجود شركات محتكرة مغطاة سياسيًا وأمنيًا ما أدى الى احتكار البنزين والمازوت وحتى الأدوية والعديد من السلع لبيعها بأسعار عالية على طريقة السوق السوداء.
الحل يبدأ بإقرار قانون تشريعي لفك الارتباط بالوكالات الحصرية
ويرى جباعي أنّ الاحتكار هو جزء أساسي من أزمتنا مع ارتفاع سعر صرف الدولار. وفق قناعاته، كان يمكن إيجاد حل لارتفاع سعر الصرف لو كافحنا الاحتكار. وهنا يُشدّد على أنّ الحل يبدأ بإقرار مجلس النواب اللبناني قانونا تشريعيا لفك الارتباط بالوكالات الحصرية وخلق المنافسة أقلها للمواد الغذائية الضرورية وللسلع الاستهلاكية الضرورية كالبنزين والدواء والطحين. وفق حسابات المتحدّث، اذا اتخذنا هذا القرار وأعطينا الفرصة للشركات المنافسة سواء اللبنانية أو الأجنبية ـ من خلال قانون المنافسة الحرة الشرعية ـ بأن تقدّم فرصة لهذه السلع بأسعار تنافسية ووسعنا مروحة الاستيراد من الخارج ومن أكثر من بلد، عندها نخلق جو المنافسة بدراسة واضحة حيث سينخفض السعر قطعًا من 40 الى 50 بالمئة.
ومن ناحية أخرى، يشدّد جباعي على ضرورة أن تلعب القوى الأمنية والوزارات المعنية دورها لناحية المراقبة لمكافحة الاحتكار. برأيه، يجب أن تلعب الدولة ووزارة الاقتصاد دورها بالحد الدنى في مراقبة توزيع المواد المستوردة خاصة اذا عرفنا أن المصرف المركزي دعم لغاية اليوم الدواء بمليار و250 مليون دولار، ما يعني أنّ ثمة أدوية في السوق، ولو كان هناك رقابة لتمكنا من الحصول على هذه الأدوية. كما يشير جباعي الى أنّ ثمة حلا جذريا لمكافحة الاحتكار هو تشكيل حكومة ووضع خطط اقتصادية للقطاعات الصناعية والزراعية والتكنولوجية لتأمين ناتج محلي وتخفيف نسبة الاستيراد من الخارج ما يساهم في تخفيض الاحتكار.