خاص العهد
"الصرف الصحي" هدر وفساد.. مئات ملايين الدولارات لمحطات لا تعمل!!
فاطمة سلامة
لطالما سمعنا أنّ الفساد في لبنان يتجذّر في مختلف مؤسسات ومرافق الدولة. إلا أنّ سماع هذا الأمر شيء والاطلاع على حقيقته عن كثب شيء آخر. الغوص في ملفات الفساد كفيل بكشف ما لا يُصدّق. "شيء مثل الكذب" لعلّها العبارة الأكثر مصداقًا لكل ما يعاينه المطّلع على حقيقة الأمور. ثمّة عقلية أحكمت الخناق على مختلف مفاصل العمل في الدولة اللبنانية إلا ما ندر. مشاريع على مدّ العين والنظر أجريت تلزيماتها على مبدإ الشراكة والتراضي ما شكّل أخطر أنواع الفساد. وعليه، بقي مال الدولة أو المال العام بالأحرى لسنوات وسنوات "سائبًا" يتجرّأ عليه أي كان دون رقيب أو حسيب.
والمُلاحظ أنّ آلية التعامل مع مشاريع كثيرة راجت منها رائحة الفساد كانت واحدة حيث إنّ نقطة الانطلاق تبدأ بتلزيمات بالتراضي بناء على مبلغ معيّن تجري مضاعفته لاحقًا وبعدما تتم الموافقة عليه رسميًا. بعد ذلك تبدأ عملية العبث بالمواصفات والمواد المستخدمة وهذا ما يُفسّر تدنّي نوعية المشاريع المنجزة في لبنان بحيث يتم شراء أسوأ المواد وبأقل الأكلاف لاستخدامها في المشاريع وتوفير بقية الأموال للجيوب الخاصة. والنتيجة مشاريع خارج التغطية وإن كانت ضمن التغطية فخارج المستوى والمواصفات المطلوبة، وبالتالي خارج دائرة الهدف المرجو تحقيقه لتأتي بعدها فقرة تقاذف المسؤوليات.
"السيمفونية" المذكورة أعلاه وجدت في مختلف الوزارات بالدولة اللبنانية. ملفات بالجملة شاهدة على هذا المستوى غير المسؤول في التعاطي مع ممتلكات ومقدّرات المال العام. ملف "الصرف الصحي" واحد من أكبر ملفات الفساد. قيمة العقود مليار و200 مليون دولار، منها 600 مليون دولار كاستدانة لهذا القطاع يضاف إلى هذا المبلغ الفوائد السنوية دون انعكاس ذلك إيجابًا على الأرض. وفي هذا السياق، أقرّ تقرير رسمي صادر عن وزارة الطاقة عام 2012 أنّ الدولة صرفت مليار دولار على قطاع الصرف الصحي الذي لم تتم الاستفادة منه سوى 8 بالمئة. ولمن لا يعلم، فإنّ معالجة مياه الصرف الصحي تؤدي دورًا كبيرًا في حماية البيئة والموارد المائية والصحة البشرية، وعدم إدارة هذا الملف بشكل سليم ومثمر يعني حُكمًا "تضييع" ثروة مائية مهمة، عدا عن ترك تداعيات جسيمة على الصحة والبيئة.
المسؤولية على عاتق وزارة الطاقة والمياه ومجلس الإنماء والإعمار
مكتب مكافحة الفساد في حزب الله -الذي يرأسه عضو كتلة الوفاء للمقاومة النائب حسن فضل الله- عمل منذ عام 2018 جاهدًا على ملف الصرف الصحي الذي يعتبر من أخطر ملفات الفساد في لبنان. بالأرقام والتفاصيل بيّنت النتائج وبما لا يقبل الشك أنّ مسؤولين عن إنجاز هذا الملف ذهبوا بعيدًا في سياسة الإنفاق غير المجدي، الافتقار الى التخطيط السليم، التخبط والفوضى، تضارب الصلاحيات. تمامًا كما ذهب البعض بعيدًا في سياسة تقسيم الكعكة مستفيدًا من عدم وجود رقابة فعّالة ومحاسبة حقيقية، فكان أن أنجزت شبكات ومحطات معالجة وتكرير "كي لا تعمل" أو لتعمل بنسبة قليلة جدًا، والنتيجة تحويل المياة الآسنة الى الأودية والأنهار والبحر بدلًا من أن تتم معالجتها في المحطات الخاصة. وبالموازاة، إنشاء محطات بقروض مع فوائدها دون تشغيلها. الإنفاق الكبير على عقود التشغيل. تدني حجم الاستفادة من الإنفاق الكبير الى نسبة لا تتجاوز الـ10 بالمئة وإنشاء محطات لا تقوم بالمعالجة المطلوبة مما يؤدي الى تلوث خطير ويحمل تداعيات بيئية وصحية جسيمة. أما الجهتان المسؤولتان عن كل هذا الهدر والفساد المالي فهي: وزارة الطاقة والمياه، ومجلس الإنماء والإعمار.
نماذج لمحطات لا تعمل.. وأخرى تعمل بطاقات متدنية
ولدى الغوص في تفاصيل ملف الصرف الصحي، يتبيّن أنّ الإنفاق على بناء المحطات من قبل مجلس الإنماء والإعمار بلغ نحو 750 مليون دولار تقريبًا، فيما لا توجد محطة واحدة تعمل بشكل كامل من أصل 18 محطة.
وفي النماذج تبرز محطة صيدا التي تبلغ تكلفتها 22 مليون دولار، فيما يبلغ عقد التشغيل السنوي لها مليون دولار. هذه المحطة تعمل لفصل المواد الصلبة الكبيرة، فيما تصرف المياه المبتذلة في البحر بدلًا من أن يجري تكريرها. أما المشكلة فتكمن في تكلفة التشغيل ونوعية المحطة.
وفي النماذج أيضًا تبرز محطة طرابلس التي بلغت تكلفتها أكثر من مئة مليون دولار، فيما تقدّر التكلفة النهائية بـ275 مليون دولار. وللأسف، فإنّ هذه المبالغ الطائلة على المحطة وشبكاتها لم تنعكس فعالية على أرض الواقع اذ ثمّة تدنّ في حجم الاستفادة من هذه المحطة التي لا تعمل سوى بـ 20 بالمئة من طاقتها.
أما محطة صور، فقد أنجزت عام 2012 بتكلفة 50 مليون دولار، لكنها لم تعمل وتحتاج حاليًا الى صيانة فضلًا عن أنها غير مؤهلة لتكرير شامل، ما يعني حكمًا دفع التكاليف عبثًا دون تشغيل المحطة.
الحال في محطة زحلة لا يختلف عن غيره، التكلفة التشغيلة السنوية تقدّر بما يقارب المليون ومئتي الف دولار. أما حجم التلوث البيئي الناتج عن هذه المحطة فحدّث ولا حرج، حيث يتم رمي "الحمأة" SLUDGE في جرود بريتال والطبيعة، فيما تذهب المياه الخارجية الى مجرى نهر الليطاني. ولدى البحث عن المشكلة الموجودة في هذه المحطة تبرز نوعية المحطة والتلوث الناتج عنها.
كما تبرز محطة إيعات من ضمن النماذج المثيرة للتعجب. تبلغ التكلفة التشغيلة السنوية للمحطة ما يقارب الـ700 ألف دولار، فيما يلزمها تطوير وتحديث في أجهزتها. أما المشكلة فتكمن بعدم معرفة مكان ترحيل "الحمأة" أو الرواسب، لتذهب المياه الخارجية منها الى سيل طبيعي باتجاه الشمال.
ويبرز مشروع الشحار الغربي كواحد من المشاريع التي تُثير الاستغراب حول حجم الأموال الإضافية التي طلبها المسؤولون عن الملف بعد البدء بتنفيذ المشروع. انطلق المشروع بتمويل محلي وبتكلفة مقدرة بـ 5 ملايين دولار، لتتم المطالبة لاحقًا بتكلفة إضافية تبلغ نحو 9 ملايين دولار بذريعة تعديل مكونات المشروع ما يوسّع دائرة "السمسرات" والهدر المالي، والنتيجة تخبط في المشروع وحجم تكلفة عال.
وفي النماذج أيضًا تبرز محطة جبيل التي أنجزت عام 2003، وجرى تمويلها عبر قرض فرنسي يبلغ 6 ملايين دولار. جرى دفع التكاليف -للأسف- من دون تشغيل المحطة لتبقى خارجة عن التغطية وغير عاملة.
أين القضاء؟!
كما في غيره من الملفات وضع مكتب مكافحة الفساد كل ثقله للتدقيق في ملف الصرف الصحي. النائب حسن فضل الله وفريق العمل كان حريصًا على كل رقم يتم إيراده في المستندات. ثمّة دقّة تغلّف الملف من ألفه الى يائه حيث جرى الاعتماد على المعاينة المباشرة للمحطات، وعلى تقريري وزارة الطاقة حول الإستراتيجية الوطنية لقطاع الصرف الصحي، ومجلس الإنماء والإعمار لعام 2017. كما اعتمد فريق العمل على محاضر لجلسات مجلس الوزراء وخريطة أنجزها مجلس الإنماء والإعمار تظهر توزع محطات التكرير، فضلًا عن جداول من تقارير مجلس الإنماء والإعمار تتضمن ما تم تنفيذه في قطاع الصرف الصحي وما هو قيد التنفيذ. وكذلك استند البحث والتدقيق الى أسعار التكلفة للمحطات الصادرة عن مجلس الإنماء والإعمار، والتلزيمات للشركات الفرنسية، بالإضافة الى عقدي إنشاء محطة صيدا وتشغيل لمحطة صيدا.
وعليه، قام حزب الله عبر مكتب مكافحة الفساد بما يتوجّب عليه وأكثر في سبيل محاربة الفساد. عمل دؤوب وجبار جمع خلاله المستندات والأدلة الخاصة بملف على مستوى عال من التعقيد. جرى وضع الملفات بكل ما فيها من أرقام وتفاصيل موثّقة في خدمة القضاء حيث جرى تقديم إخبار للنيابة العامة المالية. المستندات لا لبس فيها بانتظار أن يقول القضاء كلمته ويحكم بالعدل دون تباطؤ في ملف من أكبر ملفات الهدر والفساد في لبنان.
وفي ما يلي جداول تبيّن حجم الأموال التي صُرفت في ملف الصرف الصحي:
-جدول يتضمن خطوط التجميع والشبكات التي قام مجلس الإنماء والإعمار, بحسب تقريره, بإنجازها:
-جدول يتضمن محطات المعالجة والتكرير التي أنجزها مجلس الإنماء والإعمار بحسب تقريره:
-جدول يتضمن المشاريع قيد التنفيذ التي يقوم بإنجازها مجلس الإنماء والإعمار بحسب تقريره:
-المشاريع التي تم توقيعها عام 2017