خاص العهد
بين لهيب أوكرانيا ونار السياسات المفلسة.. كيف يخفف لبنان من تداعيات الأزمة؟
علي ماضي
تضيّق الأزمات الخناق على لبنان، ولا يكاد يخرج من مصيبة إلاّ ويقع في كارثة أكبر منها، وكما يقول المثل العاميّ "من تحت الدلفة لتحت المزراب".
وفي وقت لا تزال البلاد قابعة تحت رحمة فيروس كورونا، وتلملم أشلاء صورتها التي حطمتها الأزمة الاقتصادية، حتى دخلت في أتون تداعيات الأزمة العالميّة التي سبّبتها الأزمة الأوكرانية، لا سيّما وأنّ بيروت تستورد من الخارج الغالبية الساحقة من حاجاتها، مما يؤدي إلى خلل في الأمن الغذائي اللبناني.
ومما يزيد الطين بلّة أنّ الحكومات المتعاقبة لم تضع في سياساتها خططًا واستراتيجيات لمواجهة الأزمات الكبرى من هذا النوع، كما أنّها أهدرت العديد من الفرص الذهبيّة لتعزيز اقتصاد البلد مع أكثر من دولة، مبقية على الارتهان للأمريكي في السياسات الكبرى التي تتعلّق بأمن البلاد ومستقبلها.
فهل ستكون الأزمة في أوكرانيا بمثابة رصاصة الرحمة التي ستطلق على لبنان، أم أنه سيحوّل التهديد إلى فرصة، تكون مقدّمة للانفتاح أكثر نحو الشرق، وتكون بالتالي مقدّمة للنهوض بالبلد وإخراجه من نفق الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الانتاجي.
بحسب رئيس المركز الاسشتاري للدراسات والتوثيق، الدكتور عبد الحليم فضل الله، فإنّ لبنان صار لديه تقاطع أزمات، أزمة كورونا التي لم نخرج منها، إضافة لأزمة الانهيار المالي والاقتصادي التي لا حلّ لها، إضافة إلى الأزمة الاقتصاديّة العالميّة الجديدة المتمثّلة، حتى اللحظة، بأزمة توفّر السلع الأساسيّة والتي تتضمّن سلع الطاقة والمواد الغذائيّة والمعادن وغيرها، والتي زادت الأمور سوءًا في لبنان.
وفي حديث لموقع "العهد" الإخباري، يلفت فضل الله إلى أنّ كلّ دولة عادة تصنع لنفسها دفاعات تمكنّها من امتصاص الأزمات المفاجئة، فالدولة التي لديها اقتصاد مستقر وسياسات اقتصاديّة تصنع خط دفاع كما هو الحال في بعض البلدان في مواجهة كورونا أو الأزمة الاقتصاديّة العالميّة الحاليّة، لكن في لبنان جاءت هذه الأزمات والبلد في لحظة الانهيار، مما زاد الأمور سوءًا، لذلك لا يمكننا التحدّث عن مواجهة هذا النوع من المخاطر دون أن يكون لدينا خطة تعافي من أزمة الانهيار ودون أن يكون لدينا برنامج للتصحيح.
وهنا يشير فضل الله إلى عاملين يتحكّمان بالأسعار:
1- العامل الخارجي: المتمثّل بالحرب في أوكرانيا، التي تدور في منطقة شديدة الأهمية على مستوى الطاقة، حيث نتكلّم عن الغاز والنفط والغذاء والمعادن الأساسية، ويكفي القول أنّ لبنان يستورد من روسيا وأوكرانيا ما مجموعه 95% من حاجاته للقمح لصنع الرغيف.
ويشير فضل الله إلى أنّنا لم نتأثّر بصورة مباشرة على مستوى إمدادات الطاقة لعدم استيرادنا مباشرة من هذين البلدين، إلاّ أنّ هناك أزمة عالميّة أدّت لزيادة الأسعار، ستنعكس سلبًا على لبنان، ويمكن القول أنّ متوسط استيراد لبنان من الفيول للكهرباء كان بين مليار دولار ومليار ونصف، وهذا الرقم سيرتفع بنسبة من 50 إلى 60 % إن لم نقل 100%، وسيكون الرقم بين مليارين و3 مليارات دولار.
أمّا حاجتنا من مجمل المشتقّات النفطيّة، وعندما كانت أسعار النفط عالميًا بحدّها الأدنى، كنّا نستورد حوالي 3 مليار دولار من البنزين والفيول والمازوت، ما سيعني أنّه في حال تضاعفت الأسعار ستتضاعف هذه الفاتورة، ما سينعكس سلبًا على سعر الصرف وعلى حركة الأسعار الداخليّة.
2- العامل الداخلي: لا يوجد خط دفاع داخلي يخوّلنا امتصاص الصدمة بسهولة، بمعنى أنّه ليس لدينا ما يكفي من احتياطات بالدولار لمواجهة الأزمة ومنع انعكاسات الأزمة الخارجيّة على سعر الصرف، وما رأيناه في الأيّام السابقة من تحرّك جديد صعودي لسعر صرف الدولار كان سببه بالدرجة الأولى الضغط على كميّة الدولارات الموجودة في الداخل لشراء نفس كميّات المشتقات النفطيّة بأسعار أعلى بكثير، فكان هناك طلب على الدولار مقابل بقاء العرض كما هو. هذا، وما زلنا نتحدّث عن تدخل ما من قبل مصرف لبنان لضبط سعر الصرف، ويتساءل رئيس المركز الاستشاري "إلى أيّ مدى يمكنه ضبط سعر الصرف من دون وجود خطة تعافٍ حكومية، خطة شاملة تقوم بها الدولة للتصحيح المالي والنقدي والمصرفي والاقتصادي، ولكي نضمن أيضًا انضباطًا لسعر الصرف لفترة زمنية طويلة؟".
كما يشير إلى أنّ الانضباط الذي رأيناه في الشهرين السابقين إضافة للتأثّر المحدود الذي تأثّر به سعر الصرف جرّاء الأزمة الخارجيّة، هذا يعود لتدخّل من قبل البنك المركزي، لكن إلى متى سيستمر، لا يمكننا القول أنّه سيستمر لوقتٍ طويل، لأنّنا ما زلنا داخل الأزمة وليس لدى مصرف لبنان ما يكفي من الاحتياطيات ومن الإمكانات للتدخّل الفعّال وطويل الأمد كما عمل سابقًا لسنوات ما قبل الأزمة.
ويضيف فضل الله "نحن أمام تقاطع بين أزمتين كما أشرنا، وعلى صعوبتهما، لدينا القدرة على محاولة التخفيف من التأثيرات السلبيّة"، ويتابع "لا يمكن لبلد مواجهة تحدّيات طارئة من هذا النوع وليس لديه الحد الأدنى من الانتاج الزراعي والغذائي والإنتاج من المواد الأساسيّة الداخلية، والتي تمكّنه من تلبية جزء من حاجاته الداخلية، كذلك على كل من يبحث عن الأمن الاقتصادي أن يضع في حسبانه أن يكون لديه تنويعًا في الاقتصاد والعلاقات الاقتصادية، بمعنى أن لا تتمركز علاقاته الاقتصاديّة مع دول محددة، خصوصًا في مجالات السلع الأساسيّة والحسّاسة مثل سلع الغذاء والطاقة".
وفي هذا الإطار، يوضّح فضل الله بالقول "في نفس الوقت، لا يمكن أن يكون لدينا أمن اقتصادي دون أن يكون لدينا سياسات خارجيّة فعّالة، بمعنى إذا عانى لبنان من نقص بالإمدادات من إحدى الدول يمكنه التعويض من دول أخرى، وهنا ينبغي أن تكون لدينا دبلوماسية اقتصادية نشطة".
وعلى المستوى الداخلي، "وهو الأخطر" بحسب فضل الله، حيث يقول "مرّت سنتان ونصف منذ بدء الانهيار في البلاد، وقد فوّتنا فرصًا كثيرة دون أن نقوم بأيّ حركة لمواجهة الأزمة، ولا زلنا حتى الآن ندور في حلقة مفرغة، فلا نستطيع أن نواجه هكذا أوضاع وليس لدينا الحد الأدنى من الاستقرار المالي والمصرفي والنقدي الداخلي، واليوم المصارف مفلسة لكن بصورة غير معلنة، كما أنّ السلطة النقدية غير موجودة وليس لديها إمكانات تمكّنها من القيام بدورها، اليوم الحكومة بالكاد تتمكّن من إعداد موازنة الحد الأدنى من دون موارد كافية، كذلك فإنّ الدولة ككل ليس لديها سياسة اقتصادية واضحة للغد، فكيف يمكن مواجهة أزمة من هذا النوع ونحن في قعر الأزمة ولا نبدي حراكًا، وأضيف إلى الأعباء عبء جديد هو الأزمة الخارجية".
كيف نخفف من الأزمة؟
وبما أنّ الواقعة حلّت، ولم يعد بالإمكان تداركها، يبقى أن نحاول التخفيف من هذه الأزمة، وهذا يكون من خلال إجراءات تقوم بها الحكومة، وهي بالفعل بدأت تفكّر بها، وهذا أمر بمحّله، على أن العبرة بالتطبيق.
يقول فضل الله إنّه على الدولة العمل على مخزون سريع للمواد الغذائيّة الأساسيّة، والأمر الثاني، يجب التواصل مع الدول الصديقة المنتجة للطاقة والنفط، للحصول على موارد بديلة في حال كانت هناك صعوبة في وصول الإمدادات إلى لبنان، وكانت أسعارها أكبر من قدرة لبنان على تحمّلها، ومن هذه الدول العراق والجزائر ومصر وإيران وغيرها، وأن نحصل على إمدادات ولو مؤقتة من النفط والغاز، بكميّات تلبّي الحاجة، مع تسهيلات بالدفع، فنذهب إلى تسهيلات بالدفع على مدى طويل ولو كان ذلك باتفاقات مؤقتة وقصيرة المدى..
بمعنى آخر، بدل أن يشتري لبنان البنزين وبدلًا من استنزاف احتياطات مصرف لبنان، يمكننا إبرام اتفاقيات مؤقتة وقصيرة الأمد، عمرها 3 أشهر مع مجموعة من الدول، للحصول على الإمدادات اللازمة وأن تُسدّد قيمتها على المدى الطويل، وبهذه الحالة يحصل لبنان على حاجاته من الإمدادات اللازمة من مصادر الطاقة ولا تستنزف احتياطياته.
كذلك ينبغي أن يكون مخزون القمح لدينا كافيًا لمدة ستة أشهر على الأقل والأفضل أن يكون لسنة، (المخزون الحالي من القمح يكفي لمدة شهر فقط)، وهذا الأمر لا يكلّف كثيرًا، ويمكننا بين 150 و200 مليون دولار سنويًّا تغطية حاجاتنا من القمح.
ونوّه فضل الله إلى أنّه يجب التفكير بهذه الطريقة لمواجهة احتمال استمرار الأزمة وتطوّر الأزمة الأوكرانية لفترة زمنية طويلة. بمعنى ثانٍ، اليوم هناك استنزاف لاحتياطيات لبنان ودولاراته بطريقة غير مفهومة، تارة يُقال هناك تدخل لضبط سعر الصرف، وطورًا استعمال هذه الدولارات المتبقية لدينا لشراء سلع قد لا تكون أساسيّة، وعليه يمكننا أن نقوم بإعادة هندسة لاستيرادنا من الخارج ولاستعمالاتنا لهذه الاحتياطيات من أجل تكوين احتياطي من المواد الأساسية وإنْ كان مؤقتًا ولفترة زمنيّة محددة.
ولا يبتعد الخبير الاقتصادي والمالي، الدكتور عماد عكوش، عن هذا الجو أبدًا، معتبرًا أنّ الأمور تعتمد على الحالة السياسيّة لنعرف إلى أين سنذهب في الاقتصاد، لافتًا إلى أنّ مشكلتنا أننا لا يمكننا الاتفاق على خطة تعافي وعلى توزيع الخسائر، ولا على كيفية إجراء الإصلاحات التي طلبها صندوق النقد الدولي، ولافتًا إلى أنّه في حال استمرّينا اليوم بالخلافات السياسية حول الإصلاحات المطلوبة سواء لناحية إعادة إحياء القطاع المصرفي من خلال إقرار قانون "الكابيتال كونترول" وإقرار بعض التشريعات التي تحمي المودعين الجدد أو التي تسمح لمصارف جديدة الدخول إلى لبنان، وإن لم نستطع الاتفاق على كل هذه الإصلاحات من خلال الحكومة ومجلس النواب، فالوضع ذاهب إلى الأكثر سوءًا.
ويضيف عكوش في حديث لموقع "العهد" الإخباري "مشكلتنا في لبنان أننا إضافة إلى الأزمة الداخلية السياسية والاقتصادية، فإنّ أسعار السلع العالمية الأسياسية تتضاعف، كما أن احتياط العملة الصعبة لدينا لا يتغذّى من جديد ولا نستطيع خلق احتياطي، بل هذا الاحتياطي محدود ويُستنزف بشكل كبير جدًا، وطالما أنّ القطاع المصرفي لم يتم إعادة إحيائه سنصل إلى مكان سينفد فيه بالكامل، وبالتالي، سنكون مضطرين، أمام تحكم السوق السوداء بكل شيء، حيث سيلجأ التجار للسوق السوداء لتأمين الدولار دون معرفة أيّ سقف سيكون لهذا الشراء، كذلك لتنظيم شراء المحروقات وغيرها من القطاعات، وذلك لأنّنا أصبحنا في مكان لا نستطيع فيه تحديد سعر الصرف، كذلك لم نعد قادرين على تمويل عملية الاستيراد من خلال مصرف لبنان، وبالتالي ستترك السوق لكارتيلات المحروقات والأدوية والمواد الغذائية".
تفعيل لجنة الأزمة الوزارية
يلفت الخبير المالي إلى أنّ معظم الدول اليوم تحاول الانغلاق على نفسها في موضوع التصدير، لا سيّما السلع الأساسية، لكن هذه الدول منتجة لهذه السلع، لكننا في لبنان للأسف نحن غير منتجين للسلع، وقد صدر قرار عن وزير الاقتصاد أمين سلام بحظر تصدير بعض ما تبقّى لدينا من سلع أساسيّة سواء القمح أو الحبوب أو حتى بعض الصناعات الغذائيّة، وهذا هو الحدّ الأقصى الذي يمكننا القيام به من ناحية الاقتصاد.
لكن، بحسب عكوش، بإمكاننا من ناحية أخرى أن نفعّل لجنة الأزمة الوزارية، وأن يكون حاكم مصرف لبنان من ضمن هذه اللجنة حتى يتم وضعه تحت الأمر الواقع، ويتساءل "هذه اللجنة إنْ اتفقت على بعض القرارات أو بعض الحلول، فهل سيقوم "الحاكم" بتنفيذها؟".
وأضاف عكوش "في النهاية حاكم مصرف لبنان سيقيّم مصلحته بالدرجة الأولى لناحية هل يمكن تمويل هذه العمليّات أو هذه الاعتمادات، ونحن نرى عرقلة تمويل بعض الاعتمادات من قبل حاكم مصرف لبنان، لأسباب ليس أقلّها أن حجم الضغط على الدولار بات كبيرًا جدًا، فقد كان لدينا شهريًّا طلب على الدولار لتمويل عمليات الاستيراد خاصة السلع الاستهلاكية مثل الطحين والمحروقات والأدوية وغيرها بحدود 500 إلى 600 مليون دولار، وبعد ارتفاع الأسعار اليوم بهذا الشكل، إذا أردنا استيراد نفس هذه الكميات قد يصل الطلب إلى حدود مليار دولار".
وبتابع عكوش "لا أعتقد أنّ حاكم مصرف لبنان قد يصل إلى مكان ويتخلّى عن كامل الاحتياطي الموجود لديه، وبالنهاية سيصل إلى مكان سيتوقف فيه ويقول أنّه لم يعد قادرًا على دفع أيّ دولار، وهذا ما حصل اليوم في موضوع البنزين، حيث أحال تجار البنزين إلى منصّة صيرفة بشكل كامل، ولم يعد يدعم بأيّ نسبة، وباتوا ملزمين بالشراء على سعر منصة صيرفة بالكامل، كذلك الأمر بالنسبة للسكر والخميرة للأفران، الذين باتوا مضطرّين للذهاب إلى السوق السوداء لشراء الدولار، وهذا الأمر قد يتطوّر ليصل إلى القمح مستقبلًا، أو أنه قد يخفف من تدخله في منصة صيرفة، وبالتالي لا أحد يعرف إلى أين سيصل سعر السوق السوداء".
الدولارالمصرف المركزيالحكومة اللبنانيةاوكرانياعماد عكوشعبد الحليم فضل الله